حين نتأمل بدايات الخلق ندرك أن وجود الإنسان لم يكن عبثا، ولا حدثًا عابرًا في هذا الكون. ففي كل مرة يُقدَّر فيها خلق إنسان تنطلق ملايين الحيوانات المنوية، لا يصل منها إلى غايته إلا واحدٌ فقط، بإذن الله وتقديره. واحدٌ من بين ملايين، كتب الله له الحياة، فكان هو أنت. لم يكن لك آنذاك عقلٌ تخطط به، ولا قوةٌ تعتمد عليها، ولا شهادةٌ ترفعك، ولا أحدٌ يساندك، ومع ذلك وصلت.

لأن الله أراد لك أن تكون، ﴿إِذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون﴾. ثم لم تقف النجاة عند هذا الحد فكم من جنينٍ لم يُكتب له الخروج إلى الدنيا، وكم من مولودٍ لم يُكتب له البقاء، وكم من طفلٍ اختطفه المرض أو الفقر أو الضعف، وأنت نجوت. نجوت في كل مرحلة، لا بقوتك، بل برعاية الله، ولا بذكائك، بل بلطفه، ولا بحسن تدبيرك، بل بحكمته. فلماذا الخوف الآن؟ لماذا تضيق صدورنا عند أول ابتلاء؟

ولماذا نفقد الثقة عند أول تعثر؟


ولماذا نستسلم لليأس، وقد حفظنا الله في مراحل كنّا فيها أضعف ما نكون؟ اليوم أنت تملك ما لم تكن تملك: عقلًا يفكر، وقلبًا يعقل، وأيديَ تعمل، وأسبابًا تُؤخذ، وأناسًا يُستعان بهم. فكيف تقول خسرت كل شيء؟وكيف تقول لا أستطيع؟ وكيف تظن أن الطريق انتهى، ورب الطريق لم يتركك يومًا؟

الابتلاء تربية لا عقوبة، وحين يبتليك الله اعلم أنه لا يريد هلاكك بل يريد قلبك، يريد أن يُنقّيه من التعلّق بغيره، وأن يخلّصه من وهم الاعتماد على البشر. قد يبتليك بالأذى ممن تحب، لا قسوةً، بل رحمة ليعلّمك أن القلوب لا تطمئن إلا به، وأن السند الحقيقي ليس أمًّا ولا أبًا ولا صديقًا، بل الله وحده. وقد يبتليك بالعجز، ليُخرج من قلبك عبودية الصبر، وبالعطاء بعد المنع ليُخرج منك صدق الرضى. السؤال الحقيقي ليس لماذا تأخّر الفرج؟ بل هل ترضى بالله لأنه أعطاك أم ترضى به لأنك تثق أنه الحكيم العليم الرحيم حتى وإن منع؟ العبد الصادق لا يعبد الله على العطايا، بل يعبده على اليقين والرضى.

خاتمة:

تذكّر الذي حفظك وأنت نطفة، لن يضيّعك وأنت عبدٌ تلجأ إليه. والذي أخرجك من بين ملايين قادرٌ أن يُخرجك من ضيقك إلى سَعَته فلا تتوقف عن السير، ولا تستسلم لليأس، ولا تسقط في أول اختبار.