يكمن الحدث المركزي المُحرِّك في رواية «القبيلة التي تضحك ليلا» للروائي السعودي، سالم الصقور، في سرد ظروف ولادة متعسرة لابنة بطل الرواية «علي بن سعدى/علي بن مانع»، انتهت إلى اللحاق بسابقاتها من المحاولات غير الموفقة للإنجاب، استعمل سالم الصقور، على امتداد بنائه السردي، الحدث المُحرِّك للإحاطة بظروف الإنتاج الاجتماعية والنفسية والتاريخية التي يجد الإنسان نفسه في مواجهتها عندما «كتشف» أنه غير قادر على أن يكون كما يريد «الناس» له أن يكون؛ أو عندما يريد أن يكون كما يرغب هو أن يكون.
يتمحور خطاب الرواية، على امتداد بنائه السردي، حول الدعوة إلى مواجهة «على طريقة بول ريكور» ما بين الانتقاد والاعتقاد، وما بين الانتقاد والانتماء، مواجهة معرفية إنسانية لتوضيح الإكراهات المصاحبة للانتماءات الدينية والقبلية على وجه الخصوص.
يفتتح الراوي النص بخطاب احتفائي بسلوك القبيلة التضامني المُلهم: «تناولت هاتفي الجوال من جيبي، وأرسلت في قروب العائلة حاجتي للدم، فاستنفرت القبيلة لأجلي وماضيّ وزوجتي وطفلي غير المكتمل»، حضور أخلاقي يجسد، غالبًا، حالة تضامن طبيعية ومؤاتاة إنسانية خالصة بين أبناء القبيلة.
في المقابل، يتكثف الخطاب السردي لتفكيك سلطة الانقياد والطاعة المطلقة للرؤية الأيدولوجية الحادة تجاه من لا يتبنى المعيار بكامل أدواته، سلطة ثنائية: المخالف والمؤالف تتجسد في مجموعة من المشاهد السردية الواصفة لتموضع الأيديولوجيا، وما يحدث عندما يتعلق الأمر بما لا يتسق مع نظرتها للوجود ومعيارها المتشدد، الذي أُريد له أن يحكم منظومتها، مع انعدام أية استثناء: «كانت قوى الولاء والبراء تردعه بقوة عن زيارة أبيه»؛ «كانت رحى الولاء والبراء قد دارت دورتها في حياته».
كل الانتماءات عندما تتحول إلى ثنائيات حادة: الانصهار الكلي في مكونات الانتماء وخطاباته أو الإقصاء الكلي، حتى لو تعلق الأمر بالعلاقة الجليلة ما بين الأب وابنه، تدور «أرحية» الانتماء الغارق بالتشدد الديني مستنفرة كل طاقاتها لتحقيق غاية محددة: تشييد فاعل «فرد» متقاعس يكتفي في الانصهار بالانتماء، ولا يفكر في أن يضع في منخله «الفكري» إملاءاته وانحرافاته، يكتفي بالاقتيات على -كما يقول السارد- أوهام «يسلمها السابق للاحق»، عندما يضيّق التشدد الديني الخناق على الإنسان يأخذه رهينة قابلة للبرمجة والترويض؛ ليصبح أداة تنفيذية «شرسة» لتجفيف كل ما يحرّض ويدعو إلى فضيلة الاعتراف المتبادل بين أطياف المجتمع الإنساني: «قُطع السلام، وكادت هذه المدينة تصبح بلا تحيّة يتبادلها البشر عندما يلتقي أحدهم الآخر».
تجريم السلام في أي مكان في العالم يعني تجفيف الاحترام المتبادل، رفض التنوع الثقافي، التوجس من التعددية القائمة على الاختلاف بوصفه قيمة تخضع لحق الإنسان في الاختيار، الرغبة في تصحير المجتمع من التحية، انطلاقًا من الشد الأيديولوجي أقسى ما تلفظت به أدبيات خطابات التشدد التي عشناها، ولا نرغب في انبعاثها تحت أي ظرف، أو ذريعة، أو سد من السدود الوهمية.
يطرق سالم الصقور في هذا العمل السردي ظاهرة الإيقاع من زاوية سلوكه الخطابي الاجتياحي «حتى» لبعض التابوهات الشعبية، «علبن سعدى»، بكل ما فيه من هتك للمعيار الثقافي، حظي بالمقبولية داخل الخطاب الاجتماعي نتيجة علاقة اللذة التي تجمع بين نسق القبيلة وظاهرة الإيقاع، وبتأمله لهذه الظاهرة يقول الراوي: «نحن قوم نحب الإيقاع في كلامنا «...» الإيقاع يمتزج بكل شيء لدينا، كما لو أنه ديانة وجدانية نخفيها كما نخفي العشيقات السريّات».
يسيّر الإيقاع حياة الناس داخل القبيلة وتُجيز له أن يفعل ما لا يفعل غيره، الإيقاع بما هو «تنظيم زمني للحركة يقوم على التكرار المنتظم أو شبه المنتظم لعناصر متمايزة أصوات، حركات، أحداث، ضمن بيئة متماسكة»، يتحول بانتظامه وحيويته إلى سلطة خطابية مؤثرة في عملية التلقي بكل تجلياتها الصوتية والدلالية.
يعمل التكرار عبر الإيقاع إلى مُسيّر لعلاقة الفرد بالوجود، انطلاقًا من رؤية الإيقاع للوجود، يرسم مساره بدرجة عالية من الانسجام والتماسك، حتى يجعل المنتمي ينصهر في رقصته دون أن يشعر بما ينتجه فعل الانصهار من أثر وتأثير على تشكلات الذات.
يسعى الإيقاع إلى صهر «الفواعل» المنتمية إليه في مداره الدائري، مشكلا عصبة تستدير على قيمها معتبرة كل محاولة لكسر الإيقاع الانتمائي محاولةُ لضرب الانتماء وهتك نواته الصلبة، الخيارات محدودة في عالم الانتماء القائم على الإيقاع المنتظم التصهيري، «وبطبيعة الحال لا نتحدث هنا عن الإيقاع بمعناه الفلسفي الظاهراتي الذي ينعش الوجود كما يطرحه هايدغر»، أشد ما على المنتمي للإيقاع اشتغال الإيقاع، عبر علاقته مع مضمون وشكل الخطاب، على برمجة الفرد ليصبح ترسًا ضمن تروس أخرى يتحول إلى مجرد ناقل للحركة بكل جمالياتها وقبحياتها.
كما أن من تجليات الإيقاع، ضمن الانتماء القبلي أو الديني، اجتهاده على الإيتوس الخاص به «الصورة الذاتية التي يشيّدها الفاعل المتكلم عبر الخطاب»، خطاب الانتماء على الذات وعلى الآخر، وعلى الوجود، محكوم بالكامل برغبة في تشييد إيتوس يتسق مع رؤيته للوجود، يعمل على رواج ذات متمركزة ثقافيًا لا ترى الوجود إلا من خلال رؤيتها. الإيتوس المتمركز ثقافيًا وعرقيًا أقصر الطرق للتأثير على الفاعل وتوجيهه نحو استبطان هذه التصورات، دون أن يشعر أنه بحاجة إلى ضرب نوع من المسافة تجاه بعض مكوناته، كل إيتوس متضخم مهيئ لسحب الذات إلى منطقة التفضيل والفوقية المكروهة، عندما يتجاوز الإيتوس الحد تفقد «الذات» البوصلة وتتوهم بأنها مركز العالم، وأن كل ما لا يتسق مع تصوراتها للوجود، وما لا يتماهى مع رؤيتها للوجود هو أقل شأنًا منها.
يطبع الرواية طابع الاختيارات النحوية المتصلة بمعنى صريح بالأبعاد الأيدلوجية، وبموقف «الفاعل» من الحقيقة، انطلاقًا من أن: «الأنا» و «النحن» و«الهو» و«الأنت»، وكل الضمائر الأخرى هي في أصلها أدوات نحوية منظمة للخطاب ومحددة لمصادره، أو هي بدائل تركيبية لا يمكن لأي خطاب أن يستقيم دون وجودها، إلا أنها ليست غريبة على الصياغات الخاصة و«الحقائق» الاجتماعية والنفسية الموضوعة للتداول من خلال صوت السارد أو من خلال ملفوظات صادرة عن الشخصيات، «... وعلى هذا الأساس، فإن أي اختيار لضمير ما إنما هو بهذا الشكل أو ذاك، اختيار لموقف من الحقيقة، وطريقة في صياغتها»، «بنكراد، السرد الروائي وتجربة المعنى».
- «إنها فلتات موهبة الإقصاء التي نتقنها».
- «نحن قوم نحب...».
- «جميعهم اتخذوا قرارات بدلا مني...».
- «احترم القرارات التي تتخذ في الساعة السابعة...».
- «لقد كان أجدادنا الجوعى يتبعون أرنب الظلام ليشبعوا جوعهم، فتتيه بهم بعيدًا، وتضلهم عن طريق العودة، وذلك ما جرى لنا، بقينا نتبع الأرنب في الظلام، فلم نصطده ونشبع أرواحنا الجوعى، ولا نحن الذين نعرف طريقًا للعودة».
- «ما أصعب أن نشتاق إلى أنفسنا» «...».
الانتقال بين ضمائر الجمع والمفرد «المتكلم» على امتداد الوقائع السردية والأحداث في الرواية يُظهر مدى دقة الراوي في تعاطيه مع التموضع الانتمائي، استعمال الـ«نحن» إعلان لانخراط الفاعل في مسؤوليته الاجتماعية الجماعية، بما هو جزء من هذه المنظومة التي تشكّل نواة هويّته الصلبة.
في المقابل، يعود إلى «الفاعل المتكلم» بصيغة «المفرد» عندما يتعلق الأمر بتموضع صريح وملح تجاه ما يعتقد بوجوب حذفه من الحياة، استنادًا إلى أن مهمة الرواية -بتعبير كلود روا- تكمن في «اختيار ما يجب حذفه من الحياة للتعبير عن الحياة أكثر».
يتحمل الراوي مسؤوليته التلفظية تجاه شكل ومضمون الخطاب عبر ذات متكلمة منغمسة في مواجهة انتقادية مع اعتقادات متشددة وانتماءات لا ترحم من يجرؤ على التفكير في مناقدتها، أو التلفظ بما لا يتسق مع معيارها الكبير الذي يسيّر القيم وليس العكس، تؤكد هذه التموضعات النحوية ما ذهب إليه «برنارد قارده» من أن «اختياراتنا النحوية هي حتمًا اختيارات أيديلوجية، يعلن بها المتكلم التزامه، ويشيّد بها علاقته مع الواقع ومع الآخرين».
سطوة استلاب الذات تصل إلى ذروتها في جواب نجوى على سؤال، علبن سعدى، عن سبب طلب الطلاق بقولها: «ماااش جدًا»، ملفوظ مركز تضمن تكرار حرف الألف «ثلاث مرات» مع كلمة التكثير والتوكيد «جدًا»، يُظهر السارد حجم ما يمكن أن يعتري الذات المُستلبة، الألف المكررة في «ماااش»، صوت فعل التخريس القسري والعيش بالوكالة، والتربية على الاستلاب الطوعي المُختار، والنتيجة انتصار مبدأ ما يسمى بعلم النفس «التعلق الانفعالي السلبي»، الذي يُفرز، حتمًا، حالة الـ«ماااش جدًا».
رواية «القبيلة التي تضحك ليلا» في صميم المسألة الأخلاقية، وإن لم تتحدث عن الأخلاق، وثيقة أخلاقية في مخاطر الانتماءات المُهدِرة للإنسان؛ والمخاطر المصاحبة لتحوّل الإنسان إلى مكان لتجميع الخطابات المتمركزة، المعطلة للتفكير، استطاعت «القبيلة التي تضحك ليلا»، بلغتها الشاهقة، تجسيد أن الرواية: «ليست قطعة من الحياة، كما هي في الحياة، بل هي فن نزع قطعة من الحياة ووضعها تحت الضوء» «كلود روا»، وضع سالم الصقور، عبر روايته، ذواتنا وعلاقتنا مع الآخرين تحت الضوء، نقرأ هذا النوع من الروايات لنقرأ أنفسنا.. لنراقب أقوالنا وأفعالنا، وكل مسؤولياتنا المتعددة تجاه الانتماءات المتشددة، بكل أشكالها، في كل مكان.