لسنوات طويلة، اعتدنا تقييم الموظف بعدد الساعات، بعدد المعاملات، بعدد «الملفات التي أُنجزت». لم نسأل: ما القيمة؟ ما الأثر؟ ما الفرق الذي أضافه هذا الدور؟ وعندما جاءت الأتمتة لتنجز هذه المهام في دقائق، شعر البعض أن الكرسي اهتز، لا لأن الإنسان لم يعد مهمًا، بل لأن ما كان يُمارَس لم يكن عملًا حقيقيًا، بل تكرارًا آليًا بغطاء بشري.
الوظيفة الكسولة ليست موظفًا كسولًا بالضرورة، بل منظومة كاملة اعتادت الراحة. إجراءات طويلة، موافقات لا تنتهي، تقارير تُنسخ وتُلصق، ووقت يُهدر باسم «العمل». الأتمتة لم تأتِ لتقسو، بل لتسأل السؤال الذي كنا نؤجله: لماذا نفعل هذا بهذه الطريقة؟
في المقابل، الموظف الحقيقي لم يكن يومًا مهددًا. الموظف الذي يفكر، يحلل، يربط، يتخذ قرارًا، ويفهم السياق الإنساني والسياسي والاقتصادي للعمل؛ هذا لا يمكن استبداله بآلة. الأتمتة رفعت عنه العبء، حررته من الأعمال الميكانيكية، وأعادته إلى جوهره: العقل.
المفارقة أن أكثر من يهاجم الأتمتة هم أحيانًا من يدّعون حماية الموظف، بينما هم في الحقيقة يحمون نمط عمل قديم، يقتل الطموح ويكافئ الحد الأدنى. الأتمتة لا تظلم أحدًا، لكنها لا تجامل. هي تكشف الفجوة بين من يعمل لأن عليه أن يعمل، ومن يعمل لأنه يفهم لماذا يعمل.
في زمن التحول الرقمي، لم تعد الوظيفة عقد حضور، بل عقد قيمة. ولم يعد السؤال: هل ستأخذ الآلة مكاني؟ بل: ماذا سأفعل أنا عندما تتوقف عن فعل ما كنت أفعله بلا تفكير؟
الأتمتة لا تلغي الإنسان، بل تجبره على التطور. ومن يرفض التطور، لا يخسر وظيفته بسبب التقنية، بل بسبب اختياره الوقوف في المكان نفسه بينما العالم يتحرك.
أخيرًا.. الأتمتة لم تطرد أحدًا بلا قيمة، لكنها أنهت زمن الاختباء خلف وظيفة لا تضيف شيئًا.