ودّعنا في شهر دماغين مميزين من مفكري العالم العربي؛ الأول هو فؤاد زكريا المصري صاحب كتاب العقل العربي والصحوة الإسلامية في الميزان والتفكير السليم، والثاني عابد الجابري المغربي صاحب المؤلفات العديدة عن العقل العربي التكويني والسياسي والخلقي. ومن حسن حظ الاثنين أن يموتا بين أهليهما، وفي وطنيهما بين ذويهما، وليسا مشردين مثل النيهوم والكواكبي والوردي والأفغاني.
كان أول تعرفي على كتابات هذا الرجل في مذكراته بعنوان (حفريات في الذاكرة) ثم تمتعت بكتابه (فلسفة العلوم) قبل أن ينقحه التنقيح الأخير ونشره مركز دراسات الوحدة العربية، فأضاف إليه فلسفة ارنست ماخ ومطلق نيوتن، والحتمية الكونية لـ لابلاس، والصدفة لـ كارنو، وقانون اللايقين لهايزنبرج، ومفهوم السببية والقوانين الإحصائية، ونظرية الكوانتوم، ومفهوم الحتمية واقتصاد الفكر، وتكاملية بور في الذرة، والمكان والزمان في الفيزياء الحديثة، والقيمة الموضوعية لهنري بوانكاريه الفرنساوي، وباشلار والعقلانية الجديدة، في فاكهة فكرية جديدة منعشة، وهو من وجهة نظري كتاب تأسيسي لايقل عن بقية كتبه إن لم يتفوق.
وعني الجابري بمحاولة فهم العقل العربي، فوضع عددا من الكتب تدرس بنية العقل العربي وتكوينه، ومنه الجانب السياسي والأخلاقي.
وتمتاز كتاباته بلون من التعقيد يحتاج من يقرأها أن يصبر عليها قبل أن يفر، خلاف كتابات الوردي والنيهوم، فالوردي فاكهة وأبّ، والنيهوم سحر وعبقري حسان، لاتمسك المقالة إلا وشدتك للأخير.
وفي كتاب حفريات في الذاكرة عرفت عنه أنه جاء إلى دمشق ودرس فيها، هو يذكرني أيضا بالغنوشي الذي كان يصلي خلفي في سوق مدحت باشا، وكنا نصلي صلاة طويلة بثلاث ساعات نقرأ فيها جزءا كل يوم مع وقفة بين كل ركعتين وشرح للآيات التي مرت والتي سنقرأ.
ويقول الجابري عن نفسه إنه أحب فتاة كانت تعمل ممرضة عند طبيب عيون، وكان الجابري الشاب يراجع هذا الطبيب لعلة في عينيه، فلما أدركت الفتاة صدق نيته صارحته قائلة إنها مسيحية ولن تكون له زوجة بحال، مع أن الإسلام يبيح مثل هذا الزواج.
ومما قرأنا عنده كيف كاد يموت في هبوط مسجد يوما، وكانت يد الموت خاطفة لصديقه، وعرفنا أيضا قراره في الاختيار بين التجارة والعلم، وجاءته هذه الفكرة وهو ينظر في تجارة عمه، وهو قاعد في حديقة، ثم اتخذ قرار طريق العلم، وهي نية صادقة أنتج فيها وأبدع.
كذلك عرفنا منه الكثير عن الوضع العائلي وعن يتمه وتعلقه بأمه، وكيف أن هذا التعلق انتقل أيضا إلى أولاده من بعده، فهو لايحب أن يتركه أي من أولاده، بل يأكلون معه دوما على طاولة واحدة.
والمهم في الجابري هو في بعده الفكري، والرجل عمر متوسطا، فمات في عمر 75 عاما، مذكرا بابن خلدون، فالأخير أيضا عاش 75 عاما، قضى ثلثها في تونس وثلثها بين الأندلس والمغرب، والثلث الأخير مستقرا في مصر يعمل قاضيا محسودا وأحيانا مطرودا من وظيفته، بعد أن خسر مكتبته وعائلته في سفينة التهمها البحر الغادر.
وأظن أن الجابري عاش مثل ذلك في الجامعة، ولذا اخترت أنا الطب بحيث لايعرفني من حولي سوى بالمبضع والشاش، فلايؤثر فكري على رزقي. أما الجابري فعاش استاذا جامعيا يتكسب من الفلسفة، مع أنه حاول الابتعاد عن السياسة لكنه اعتقل مثل أي صاحب فكر ونشاط في عالم الغابة اليعربية.
يعتبر الجابري من العقول الممتازة والأقلام الجيدة، وقد استفدت منه في كتابه فلسفة العلوم، وعرفت ربما للمرة الأولى رياضيات ريمان الألماني ولوبشوفسكي الروسي عن الخط المستقيم بين نقطتين أو لامستقيم قط أو خطوط لانهائية، مما حطم نظرية اقليدس القديمة.
واعتبر أيضا في هذا الصدد كتابين هما من خيرة الكتب في فلسفة العلوم هما؛ العلم في منظوره الجديد لروبرت آغروس وجون ستانسيو، وكتاب مدخل إلى فلسفة العلوم لمحمد عزام، وهما من أجمل الكتب التي اطلعت عليها في فهم الابستمولوجيا.
والجابري في نقده للعقل العربي، وكذلك تعرضه لمسألة القرآن والتفسير لم ينج من اللوم والملامة والذم والمناحة، وهو طبيعي من الطرفين؛ فلم يرض عنه المتدينون، كما أن طرابيشي اللبناني هاجمه في كتاب نقد النقد، مقلدا كتاب تهافت التهافت لابن رشد، الذي علق على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة.
أتذكر مع موت الجابري حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، علم ينتفع به وصدقة جارية وولد صالح يدعو له، ولعل الأولى هي الخالدة فعلا، فالرجل ترك خلفه إرثا كبيرا ومؤلفات تنفع في معرفة المعاصرة.
والتقيت مع الرجل في منابر عدة في الكتابة سواء مجلة المجلة السعودية سابقا التي أصبحت إلكترونية، أو جريدة الاتحاد الإماراتية أو جريدة الاقتصادية. وكذلك اجتمعت به شخصيا في أكثر من مؤتمر، وكان حريصا على حضور مؤتمرات جريدة الاتحاد الإماراتية التي تحاول أن تخلق جوا للحوار بين المفكرين النخبة، وما زلت أذكر انتباهه لكلامي حين علقت في ندوة السلاح النووي الإيراني فوصفته ،أي السلاح النووي الإيراني بالصنم الجديد وهو كذلك..
رحمة الله عليك ياجابري في الأولين والآخرين، والآن وصلت إلى اليقين، فبصرك اليوم حديد، وعسى أن تكون كتبك درجات في الحسنى فيرضى عنها الرحمن الرحيم.