شارك كاتب هذه السطور ضمن مجموعة من الشباب العرب في برنامج نظمته الأكاديمية الدولية للتعليم والديموقراطية ومقرها كوبنهاجن بغرض التعريف بالتجربة الإصلاحية للدنمارك وهو الأمر الذي يأتي ضمن محاولات عدة مؤسسات في الدنمارك لتفعيل الحوار مع العرب عقب أزمة الرسوم المسيئة، ولعل الأزمة نتج عنها أمر حسن وهو انطلاق حركة حوار ونقاش عميقة ومكثفة بين الثقافتين على عدة مستويات، وهو الحوار الذي يقود إلى تبادل التجارب والرؤى بين العالم العربي وبين دول ظلت على مدى طويل خارج نطاق اهتمامنا، تضمن البرنامج عرضاً لتجربة الدنمارك في إصلاح التعليم وبالأخص زيارة لإحدى المدارس التجريبية - مدرسة هيلرب (Hellerup Skole) والتي أنشأت ضمن مشروع SKUB لإصلاح التعليم في كوبنهاجن.

الورقة والمحاضرة التي قدمها البرنامج حول هذه القضية تناولت فكرة أن التعليم التقليدي وهو ما يمكن رؤيته على أنه عملية نقل المعرفة من جيل إلى آخر بات أمراً غير ذي فعالية في عصر العولمة الذي يحتاج لقدرات ومكانيات مختلفة للطلاب في حل المسائل التي يواجهونها في الحياة، ومن ثم يصبح التحدي الأكبر أمام التعليم هو تطوير قدرات الطلاب على الابتكار والتفكير خارج الصندوق، وخاصة أن التعليم في حد ذاته أحد الأساسيات التي تعتمد عليها عملية الإصلاح الشامل في أي دولة أو مجتمع، ومن ثم فالأولى أن يوجه الإصلاح قبل كل شيء إلى التعليم كونه النواة الأولى، وإذا كان التحدي الرئيس أمام المجتمعات في عصر العولمة هو القدرة على الابتكار فأين تقع هذه المسألة من المدارس سواء الابتكار في نظم التعليم نفسها أو جعل نظم التعليم وقوداً للابتكار؟

مدرسة هيلرب في كوبنهاجن لديها ما يقارب من 600 طالب موزعين على 28 فصلاً بمعدل 22 طالب للفصل الواحد تقريباً، ولكن يكمن الابتكار في المدرسة في أنه لا يوجد بها فصول أو قاعات دراسة، وفي واقع الأمر فإنها لا تشابه أياً من المدارس التي نعرفها، فهذه المدرسة تتمحور حول الطالب لا العكس، والنظرية خلف مشروعها هي أن الطلاب يتعلمون بطرق مختلفة ولتعظيم القدرة على التعلم لدى الطفل فإن بيئة التعليم المحيطة يجب تعديلها وتطويرها لتعكس الظروف الأمثل لتنمية هذه القدرات، وطرق التدريس يجب أن تكون مبتكرة، وبالتالي فإننا نتحدث عن إعادة بناء (طريقة) و(مكان) التعليم، فالفكرة هنا هي أن الطفل والطالب لا يجب أن يتكيف مع القالب الجامد للمدارس التقليدية بل على المدارس أن تكون هي القابلة للتكيف والتشكل مع احتياجات الطلاب وهو انقلاب جذري في فكر التعليم.

على صعيد (مكان التعليم) فإن مدرسة هيلرب ليس بها فصول مدرسية كالتي نعرفها بل هي عبارة عن مساحات مفتوحة ومتعددة تشابه غرف المعيشة في البيوت، عند دخول المدرسة يتطلب من الجميع خلع أحذيتهم أو ارتداء قماش واق فوقه وذلك ليس فقط للمحافظة على بيئة المدرسة وإنما لأن الدراسات تشير إلى أن الأطفال يفضلون استخدام الأرض في الكثير من الحالات كالاستلقاء عليها حين الاستماع أو الرسم أو الدراسة، وفي هذه المدرسة نادراً ما تجد طاولة (ماصة) الدراسة المعتادة فالتعليم لا يرتبط بفكرة انضباط الطلاب على مقاعد دراسية قدر ما يعتمد على خلق البيئة الأكثر أريحية وملائمة للطالب نفسه، وهذا الأمر يدعم ما تشير إليه الدراسات من أن الأطفال يتعلمون من بعضهم البعض أسرع وأفضل مما يتعلمونه من أساتذتهم، ومن ثم فإن فتح المسافات للتواصل بين طلاب من عدة أعمار سيساعدهم على هضم المعلومات.

أما على صعيد (طريقة التعليم) فإن ابتكار هذا المشروع يتمثل في الانتقال من فكرة التلقين الجماعي إلى التعليم الذي يركز على الفرد واحتياجاته، فطريقة التعليم تعتمد على مبدئين: الأول أن الطلاب يتعلمون أفضل إذا كانوا يستمتعون ويلعبون، والثاني: إعطاء مساحة كبيرة من القرار للطالب، وبناء على ذلك لا تتبع هذه المدرسة منهجاً دراسياً موحداً وإنما تعتمد على مبدأ حل الإشكاليات والإجابة على استفسارات الطلاب أنفسهم، على سبيل المثال: قد يكون أحد الطلاب مهتماً بمعرفة كيفية نشوء الكون، ومن ثم يقوم كل مدرس بتصميم الدروس الخاصة بمادته ضمن منظومة الإجابة على هذا الاستفسار، فمدرس العلوم يشرح لطالبه، ومدرس اللغة يعلم الطالب كيف يكتب حول هذا الموضوع، ومدرس الدين يعطيه وجهة النظر الدينية للمسألة، ومدرس الفنون يدفع الطالب للرسم ضمن هذه الفكرة ومدرس آخر يعلمه كيف يبحث عن هذه المسألة في الإنترنت، وهكذا دواليك يتعاون المدرسون كلهم للتركيز على احتياج كل طالب دون إغفال الهدف الأساس للمنهج الدراسي والمتمثل في أن يحصل الطالب على القدرة على استخراج المعلومة من الإنترنت وعلى الكتابة بشأنها وعلى فهمها علمياً، كل هذا يتم ضمن عملية تقييم مستمرة لكل طالب على حدة ومن ثم فهذا النظام يعتمد على التغذية للأمام (feed-forward) أي التخطيط المستمر لكيفية بناء الطالب، بدلاً من النظام التقليدي الذي يعتمد على الفحص الدوري لما تم تلقينه للطلاب جماعياً.

يمكن رؤية مقتطفات حول هذه المدرسة على اليوتيوب (http://www.youtube.com/watch?v=glmSEAgSsok) وكذلك مدرسة أخرى شبيهة (http://www.youtube.com/watch?v=GI2IEZHA26k&feature=related) والتي يقول مديرها أن المدرسة القديمة كانت نتاج المجتمع القديم، حيث إن الفصول كانت تعد وحدة إنتاج يقوم المدرس فيها بدفع المعرفة إلى عقول الطلاب، تلك المباني وطريقة التفكير حول عملية التعليم تجعل من الصعوبة بمكان تعليم الطلاب وجعلهم قادرين على التعلم أو أن يتعلموا كيف يتعلموا (to learn how to learn) لأن المجتمعات اليوم تتغير بسرعة وعلينا التكيف مع هذا التغيير.