في النصف الأول من شهر مايو عام 2035 شهدت المملكة هطول أمطار غزيرة وعواصف رعدية لم تشهد لها مثيلا منذ ربع قرن حسب البيانات الرسمية لمصلحة الأرصاد، كانت أمطارا تاريخية فعلا لشدة غزارتها وكثافة كمياتها إذ تراوحت بين 200 في بعض المناطق إلى 300 مليمتر في مناطق أخرى، وكانت بفضل الله أمطار خير وبركة إذ لم تسجل حوادث تذكر في جميع مدن ومحافظات المملكة، بل عرضت شاشات التلفزة وشبكة الإنترنت مشاهد ممتعة لتدفق السيول وتجمعات الناس الذين كانوا يخرجون كلما هدأت غزارة الأمطار في جميع المناطق للاستمتاع بالأجواء الربيعية المنعشة وتسجيل لقطات جميلة حية من على ضفاف الأودية وفي الحدائق والشوارع.
في اليوم الرابع عشر من شهر مايو نفسه وقف الدكتور محمد في قاعة المحاضرات بالجامعة ووجه سؤالا لطلابه عن مشاعرهم حيال الأمطار فلم تخرج إجاباتهم عن أجواء المتعة التي عاشوها، ولم يكن هناك مشكلة تذكر، إلا أن أحدهم قال المشكلة مع أهلي فقد رفض أبي وأمي أن أحضر للجامعة بحجة الخوف عليَ من المطر وقالا: سلامتك أهم من الجامعة و...هنا قاطعه الدكتور وقال: والداك على حق، ثم وجه سؤالا للجميع يقول: هل تعلمون أن كل هذه الشوارع والطرق التي تسيرون عليها صغيرها وكبيرها تضم تحتها أنفاقا ضخمة للمجاري وتصريف الأمطار وخطوط الخدمات وأن العاملين على صيانتها يستطيعون التجول داخلها بسيارات الصيانة؟ قالوا بتلقائية ودهشة نعم نعلم، قال وهل تعلمون أن لا مشروع ينفذ إلا وهو مستكمل لكل شروط السلامة والوقاية، قالوا نعلم قال: وهل تعلمون أن لا ريال يصرف على أي مشروع من حسابات الدولة في كل قطاع إلا وهو معلوم لجميع المواطنين من واقع موقع وزارة المالية على الإنترنت، قالوا نعلم ونعرف أن مجلس الشورى يحاسب على كل ريال فماذا تريد يا دكتور؟ قال فاعلموا إذن أن جيل والد ووالدة زميلكم وجيلي كانوا يتطلعون إلى هذه النعمة ويكادون لا يصدقونها، فضحك الطلاب وهم يسخرون من الدكتور قائلين: إنها بديهية طبيعية لا تستدعي منك كل هذه الأسئلة وهذه الفوازير، قال: أما إنها بديهية طبيعية فهذا صحيح، لكنكم لو عاصرتم مثلما عاصر والدا زميلكم ومثلما عاصرت لعرفتم ما أقصد، والآن سأوضح الأمر وفتح الدكتور جهاز الكمبيوتر وبدأ يعرض لطلابه مشاهد حية مما حدث في مايو عام 2010 وما قبله مما أدهش الطلاب وأثار فضولهم للاستزادة سيما وهم يرون ويسمعون عن الغرقى والشوارع المغلقة وأحاديث عن كارثة حدثت وأخرى متوقعة وقوارب تنقل الناس من ضفة طريق إلى آخر ومنازل سقطت وأنفاق احتجزت الناس..الخ. وبعد أن انتهى هذا العرض المثير لهم والغريب عليهم، قال الدكتور: هذه المآسي التي رأيتموها هي سبب البديهية التي أنتم فيها اليوم، أليست نعمة؟ قالوا بلى، ولكن ما الذي حدث؟ قال: بعد أن تفاقمت المشكلة خلال سنوات طويلة وبلغت ذروتها في عامي 2009 و 2010 وفي شهر مايو تحديدا من عام 2010 صدر قرار الملك عبدالله الإصلاحي التاريخي باجتثاث ماضي الفساد ووضع قاعدة لبناء مستقبل سليم متحضر فكان ما أنتم فيه اليوم، وانتهى الدرس. هل تكفي 25 سنة قادمة؟ اسأل نفسك.