في عام 1940 تقدم جراح ألماني اسمه جيرهارد كونتشر (GERHARD KUENTSCHER) من مدينة (كيل KIEL) إلى لقاء الجراحين الرابع والستين السنوي في مدينة (كولونيا KOELN) بتقنية جديدة مثيرة لمعالجة الكسور عندما كان يتأمل أعمال الحدادين؛ فإذا كان الجراحون قد استعاروا الإبرة والخيط من الخياطين، فلماذا لا نستخدم صفائح الحديد والأسياخ والبراغي في معالجة الكسور؟
كانت المشكلة في كيفية تقبل الجسم لقطع الحديد الغريبة.
قام الجراح المذكور بتجاربه في شمال ألمانيا البارد بهدوء، فعالج إصابات كسور العظام الطويلة بفتحة صغيرة على الجلد فوق مستوى الكسر، أدخل منها عمودا غليظا من الحديد الصلب المعقم إلى تجويف العظم، مما أكسب الكسر ثباتاً مثالياً، وجمع إحصائياته ثم فاجأ المؤتمر بهذه التقنية المثيرة للجدل!
كان أكثر المهاجمين جراح عظام نمساوي مشهور هو (لورنز بوهلر LORENZ BOEHLER) الذي قال عن الفكرة الجديدة إنها لا يمكن أن توصف بأقل من نكبة حلت بالبشرية!
نشأت بين الرجلين عداوة كالعادة في التنافس بين أهل المهنة الواحدة، والذي حسم الموضوع أكثر من الخصومات الشخصية كان النتائج الميدانية لهذه الطريقة..
ومن ثمراتهم تعرفونهم.
إن ما فعله (كونتشر) كان أكثر من تطبيق سيخ من الحديد في تثبيت عظم مكسور، فقد فتح الطريق إلى تثوير فرع جديد كامل في الجراحة (OSTEOSYNTHESIS) ويثبت اليوم كسر الظنبوب بصفيحة، والداغصة بسلك، وعنق الفخذ بمسمار، ويطور اليوم نوع من الأسمنت والعظم الصناعي للاستعاضة عن الحديد القديم. بل وتطول العظام بتقنية إليزاروف بحلقات الحديد.
ومازلت أذكر من طفولتي عندما تزحلقت جدتي على الثلج فانكسر عنق الفخذ عندها، وكان الناس يتعارفون عليها آنذاك بكسر (الزر) وكان يعني وقعة لا قيام بعدها، ويومها جاء (آروش) الأرمني لمعالجتها بالطب (العربي) فما زال يلعب بالزر المكسور وهي تصرخ من الألم وهو يطمئنهم على نجاتها ويمد يده فيملأها بالليرات جزاء أتعابه.
جدتي لم تقم من سقطتها وبقيت مربوطة إلى مقعد متحرك حتى سلمت الأمانة بانسداد معوي، وحضر من جديد آروش شامي، فقال لهم باللهجة المحلية (ما في جارة = الجيم تلفظ مثل الشين).
كان سقوط المسنين يعني السقوط في فراش الشيخوخة حتى الموت، ولكن إدخال التقنية التي افتتحها كونتشر عام 1940 أقام المسنين بعد كسور عنق الفخذ فهم يمشون، وإلى ممارسة نشاطاتهم وحياتهم اليومية يعودون، أما جدي وجدتي رحمهما الله فكان حظهما أنهما لم يولدا في ألمانيا، ولم يريا كونتشر، ولم يولدا بعد نصف قرن، فبقيا طريحي الفراش حتى الموت ، والسؤال: لماذا تُحارب الأفكار الجديدة؟
ينبع هذا في الغالب من مصدرين؛ الخوف من التغيير، والخوف على المصالح؛ فعندما تقدم عالم في ألمانيا يثبت أن (البيرة) تسبب السرطان أعلنت الشركات عليه الحرب، لأن هذا معناه إقفال عدد فلكي من مصانع البيرة!
وعندما يثبت العلم بما لا يقبل الشك أن التدخين يسبب سرطان الرئة، وأن السجائر تسبب الموت المفاجئ باحتشاء القلب؛ فإن صفحات الدعاية للدخان وبعد معارك طاحنة سمحت بكتابة هذه الحقيقة العلمية بخط مسماري! من حجم النانو! لا يمكن قراءته إلا تحت المجهر، وجرت العادة أن الناس لا تحمل مكبرات في جيبها، ولا تطيل التحديق بنقوش تزين الزاوية السفلية، ليتم اغتيال العقل والعلم معاً في صفقة تجارية موفقة! في شهادة صاعقة أن المصالح أهم من صحة الإنسان، وهذا يثبت مثل حمار برتراند راسل؛ كما جاء في كتابه (هل للإنسان مستقبل؟) أن ناراً شبت في الزريبة فهرع القوم لإنقاذ الحمار؛ فأبى؛ فبذل الخدم جهداً غير عادي في محاولة إقناعه بالخروج قبل أن تلتهمه النيران، فلما عجزوا لم يكن لهم بد من إخراجه منها بالقوة بالحبال، لأنه لا يعرف مصلحته ولا يقدر الخطر ومعنى النار لحياته!
يعلق الفيلسوف على هذه الواقعة فيقول إن الحمار معذور؛ فإذا أخذ الله ما وهب سقط ما وجب، ولكن البشر يتصرفون تماماً كالحمير في كثير من الأمور عندما يرفضون ما يفيدهم ... والله يقول .. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
ولكن عندما نصف تصرف بعض الناس بالجنون والحماقة لا يقربنا من فهم آلية ما يحدث، فلماذا يتصرف البشر ضد مصلحتهم في كثير من الحالات ؟؟
لعل أخطر مرضين ينخران في الضمير البشري لإنتاج ظاهرة العقل المعتقل هما الآبائية ومرض الاستكبار.
الآبائية بالخوف من الجديد الذي يدعو إلى التغيير، والاستكبار برفض الحق ولو جاءتهم كل آية، في مرض مركب معقد من بنية الجهل.
وأخطر مرض يجمد حركة المجتمع هو رفضه للأفكار الجديدة، لأنه يقتل بهذا روح الإبداع والمبادرة والتغيير.
وقصة الجراح (كونتشر) ليست الوحيد ، فرائد جراحة الأوعية (الكسيس كاريل) حيل بينه وبين أفكاره في تطوير خياطات جراحة الأوعية الدموية ونقل الأعضاء، مما حرضه على الهرب من فرنسا والالتحاق بمعهد روكفلر في أمريكا لينال بعد ذلك جائزة نوبل عام 1912 م ويسطر أروع أفكاره في كتابيه (الإنسان ذلك المجهول) و (تأملات في سلوك الإنسان) . نفس المصير عانى منه (مندلييف) صاحب أكبر كشف كيمياوي للجدول الدوري للعناصر، فبقدر ما حورب داخل روسيا بقدر ما التمع نجمه خارجها فمزمار الحي لا يطرب!
وينقل (جاك بيرج) في كتابه (عندما تغير العالم) عن (ماكس بلانك) الذي وضع حجر الأساس لـ (ميكانيكا الكم) عام 1900 م قوله؛ إن الأفكار الجديدة لا تقبل على ما يبدو حتى يموت معارضوها، وهذا الذي حدث معه شخصياً ، فلم يمنح جائزة نوبل على نظريته إلا أخيرا، عندما تحولت إلى ثابتة كونية مثل سرعة الضوء في نظرية النسبية.
عندما تحدث القرآن عن ظاهرة (النسخ) لم يكن عبثاً ومن فراغ ، فكما نسخ التاريخ حكم ملك اليمين فأصبحت الآية بهذا ذات مضمون تاريخي، فلم يعد هناك أسواق لبيع ملك اليمين اليوم، كذلك يحصل للمؤسسات ، فقبل البريد أرسل اليونان العداء الشهير (فيبديبس PHEIDIPPES) يركض بدون توقف مسافة 42 كلم ليسقط ميتاً بعد إبلاغه خبر انتصار أثينا على الفرس في الماراثون، الذي ألهم فكرة ألعاب الأولمبياد العالمية، ولكن البريد تحول إلى مؤسسة عالمية لا تعرف الحدود، ليبدأ في التلاشي مع البريد الإلكتروني والفاكس، سنة الله في خلقه، وما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير؟
إن المجتمع لا يرحب بالشواذ من الناس فيفعل بالأفراد ما يفعله الدجاج مع المجروح منه؛ فعندما يبصر دم المجروحة يهيجه منظر الدم الناقع فينقرها حتى الموت في مكان الجرح بدون رحمة، وعندما يشذ الفرد بأفكاره قد يكون مصيره مثل مصير الدجاجة المجروحة..
وكما جاء في الحديث الصحيح؛ أنه يأت النبي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد.