ثلاثة عوامل تجعل نظام (ساهر) الجديد لرصد المخالفات المرورية عرضة للتوجس الشعبي حول (عدالة) تطبيقه، وليس (جدواه) بالضرورة. أولاً، أن تمنح شركة خاصة هادفة للربح صلاحية تطبيق عقوبات تنفيذية على المواطن. ثانياً، أن جميع أجزاء النظام مترابطة إلكترونياً باستثناء جزء واحد هو: آلية الاعتراض على المخالفة.
ثالثاً، مدى فعالية أن تطبق قوانين المرور بكل صرامة فجأة بعد عقود طويلة من التسيب المروري الذي وضع السعودية في رأس قائمة الحوادث المرورية في العالم بأسره.
هذه العوامل الثلاثة يجب أن ينظر فيها بعناية وتركيز شديدين، لأن من شأنها أن تُفشل النظام بأكمله، ليس من جانبه (التطبيقي) المتمثل في ضبط النظام المروري فحسب، بل في جانبه (الوطني) الأشمل المتمثّل في حماية مقدرات الوطن ومكتسباته البشرية والمادية، ودعم المجتمع المدنيّ ومؤسساته الفاعلة، وتسهيل مقتضيات الحياة اليومية للمواطن لتحسين مستوى معيشته، فنظام (ساهر) ليس إجراء جانبياً في دائرة حكومية صغيرة، ولا قانوناً مقتصراً على شريحة قليلة من الناس، بل هو نظامٌ يتعامل معه المواطن بشكل يوميّ، ويترتب عليه حقوق مادية، وأرواح بشرية، وعدالة اجتماعية.
العوامل الثلاثة المذكورة في أول المقالة، سنناقشها بالتفصيل هنا، ليست سلبيات ولا أخطاء، ولكنها من سمات نظام (ساهر) الواضحة في المرحلة الأولى من تطبيقه.
والهدف من ذكر هذه العوامل هو الإشارة والتنويه إلى أهميتها من حيث كونه محكّاً لنجاح النظام أو فشله، وطنياً وليس تطبيقياً. فالنجاح (التطبيقي) سهل ، لأن العقوبة الصارمة ستحدث أثراً بالتأكيد، ولكن النجاح (الوطني) صعبٌ ، لأن العقوبة الظالمة تضر ببنية الوطن الاجتماعية، وبشعور المواطن بالأمان والعدالة. إنها عوامل للدراسة وللوضع نصب أعين المسؤولين عن النظام، وليس للتقليل من شأن النظام الجديد أو المطالبة بوقفه.
العامل الأول يتعلق بكون (ساهر) شركة خاصة هادفة للربح كما سمعت، وإذا كانت هذه المعلومة خاطئة فليسامحني المسؤولون والقراء ، لأن موقع ساهر الرسمي على الإنترنت لا يشير إلى هذه المعلومة من قريب ولا من بعيد، ولأن الوصول إلى إدارات العلاقة العامة في المرور كان صعباً ومليئاً بالتحويلات! ولكن لنفترض ذلك على أساس أن إدارة المرور سبق لها الاستعانة بجهات خاصة من قبل مثل (الفحص الدوري). والحقيقة أن قيام الشركات الخاصة بمسؤوليات حكومية هو أمرٌ لا بأس به من حيث المبدأ، وله إيجابيات كثيرة وتجارب ناجحة في دول مختلفة، ولكن هذا التبادل في الأدوار يجب أن يكون مشروطاً بإجراءات رقابية واضحة لضمان عدم ميل الشركة لتحقيق مصالحها على حساب المواطن الذي لا يملك خياراً. والكثير من الدول الأخرى التي تتميّز بنظام مروري فعّال أوكلت الخدمات الحكومية لجهات خاصة، ولكن ذلك في العادة يتم عبر مراحل شفافة منها: أن يكون هناك آلية رقابية صارمة على كل عمليات الشركة، وأن تكون فرصة أن تخسر الشركة عقدها مع الحكومة قائمة حتى لا تتساهل في عملها، فالشركة التي لا تملك حافزاً لتقديم خدمة أحسن لن تكون أفضل أداءً من الجهاز الحكومي إذا تولى المهمة بنفسه، فما الداعي للخصخصة إذن؟ وأقرب مثال لهذا هو خدمات الفحص الدوري التي لم تتطور مطلقاً طوال فترة احتكارها للعقد الحكومي، حتى استبشرنا بقرار مجلس الوزراء بكسر الاحتكار دعماً للتنافسية وعدالة الفرص.
وفي الغالب أن الرقابة على الشركات الخاصة التي تؤدي مهام حكومية تمسّ المواطن يجب أن تتشكل من ثلاثة عناصر مختلفة الدوافع حتى لا تكون رقابة شكلية فحسب، وهذه العناصر التي تشكّل الرقابة هي: الجهة الحكومية المانحة للصلاحية، مؤسسات حماية المستهلك أو أي مؤسسة (مدنية) تقوم بدور مشابه، والجهات القضائية المستقلة التي تفصل في النزاعات. وفي أغلب مراكز المرور في الدول الأخرى يوجد قاض متفرغ داخل مركز المرور للبت في قضايا مخالفات المرور، ولا يبتُّ فيها إلا بحضور شرطي المرور الذي رصد المخالفة والمواطن الذي صدرت بحقه، وذلك في جلسة مفتوحة، وفي حالة تخلف شرطي المرور عن الحضور تسقط المخالفة تلقائياً، وعلى شرطي المرور أن يحضر الأدلة التي استند عليها في منح المخالفة، وعلى المخالف أن يدفع التهمة عن نفسه، وبعدها يحكم القاضي، ليس بناءً على الأدلة والقرائن فحسب، بل كثيراً ما يأخذ في الاعتبار الحالة المادية والاجتماعية والنفسية للمخالف أيضاً. كل هذا يحدث وفق آلية مريحة وسهلة تشجّع المخالف على الاعتراض حيث لا يوجد أي عقوبة إضافية عليه في حالة ثبوت المخالفة عليه.
هذا يقودنا إلى العامل الثاني من العوامل المذكورة أول المقالة، وهو آلية الاعتراض.
فنظام ساهر يبدو مدهشاً بمدى اعتماده على التقنيات الحديثة من رصد المخالفة بالكاميرا، إلى إشعار صاحبها عبر الجوال والبريد الإلكتروني، إلى توفير قنوات تسديدها عبر مواقع البنوك الإلكترونية. إذن الرصد والإشعار والتسديد يكون إلكترونياً ، لأنه يحقق مصلحة الشركة/الإدارة الحكومية، أما الاعتراض الذي يحقق مصلحة المخالف فلا يمكن إتمامه إلا بزيارة "هيئة الفصل في المنازعات والقضايا والمخالفات المرورية". وهذا يعني فتح (معاملة حكومية)، والتعقيب عليها، ومتابعة إجراءاتها، والبحث عن واسطة لتعجيلها، وبقية مسلسل العناء البيروقراطي الذي يعرفه الجميع عن المعاملات الحكومية. وهنا نتساءل: كيف قام (ساهر) بتطبيق الأجزاء الثلاثة الأصعب (الرصد والإشعار والتسديد) إلكترونياً، رغم ما تتطلبه هذه الأجزاء من تنسيق مكثف مع أمانة المدينة لتركيب الكاميرات، ثم شركات الاتصالات لإرسال الإشعارات، ثم البنوك المحلية لتحصيل المبالغ، ثم نجد (ساهر) يتهاون في الجزء الأبسط (الاعتراض) الذي لا يتطلب أكثر من قيام المعترض بتعبئة نموذج بسيط على موقع الإنترنت ليتم تحويله للجهة المختصة التي تقوم بمراجعة الاعتراض، والاتصال بالمعترض وشرطي المرور وإشعارهما معاً بموعد جلسة الفصل في النزاع؟
العامل الثالث والأخير قد يختلف حوله الناس، فالبعض يرى أن النظام يجب تطبيقه بصرامة فور تمامه، ولا حاجة لمجاملة السائقين وتوعيتهم تدريجياً ، لأن (قرصة) صغيرة من نظام ساهر تكفي عن أشهر من التوعية والإرشاد، والبعض الآخر يرى أن النظام يجب أن يأتي ضمن منظومة متكاملة تبدأ بإصلاح الطرق، وتحسين اللوحات الإرشادية، والبدء بالمخالفات الأشد والأخطر، وأيضاً إعادة هيكلة مبالغ المخالفات بحيث تبدأ منخفضة لدى السائقين ذوي السجلات المرورية النظيفة، وتزداد قيمة المخالفة كلما (اتسخ) سجله المروري، مع ضمان حقه (الميسّر!) في الاعتراض.
نظام (ساهر) مهمٌ جداً رغم تأخره، ولكنه لا يزال كما يبدو بحاجة إلى جهود مكثفة لتحسينه. ولا تكفي العقول التقنية فحسب لإتمام المشروع، بل هو في حاجة ماسة إلى عقول حقوقية وقانونية واجتماعية واقتصادية، تتضافر مع بعضها لإنجاز مشروع وطني متكامل يدفع بمجتمعنا عدة خطوات حضارية إلى الأمام، ويحفظ الأرواح والممتلكات، كما يحفظ أيضاً الحقوق والعدالة الاجتماعية والشعور الشعبي بالأمان والارتياح.