اقترحت الحكومة الألمانية مؤخراً تعيين مفوَّض أوروبي لمساعدة الحكومة اليونانية. وبحسب الاقتراح الألماني، سيكون لهذا المفوَّض سُلطة على النظام الضريبي والميزانية الوطنية اليونانية. وحيث إن البنك المركزي الأوروبي يسيطر حالياً على العملة اليونانية، اليورو، فإن هذا سيحول عملياً السيطرة على الحكومة اليونانية إلى الاتحاد الأوروبي، حيث إن من يسيطر على نفقات الحكومة، نسبة الضرائب، والسياسة النقدية يسيطر عملياً على البلد. لذلك فإن الاقتراح الأوروبي سيُجمِّد السيادة اليونانية والعملية الديموقراطية كثمن للمساعدات إلى اليونان. ومع أن المفوضية الأوروبية رفضت الاقتراح، إلا أن المفهوم لا يزال موجوداً. اليونانيون الآن وسط أزمة مالية جعلت اليونان عاجزة عن دفع ديونها. وخياراتهم هي التأخر عن دفع الدين أو إعادة التفاوض على تسوية مع دائنيهم. صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي يديران هذه المفاوضات. وجاء في دارسة نشرتها مؤسسة "ستراتفور" الأميركية للأبحاث في أواخر يناير المنصرم أن أي تسوية من هذا النوع يجب أن يكون فيها ثلاثة أجزاء: الأول هو موافقة الدائنين على التخلي عن جزء من الدين. والثاني هو مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي للمساعدة على دفع الديون المتبقية. والثالث هو موافقة الحكومة اليونانية على الحد من الإنفاق ورفع الضرائب حتى تتمكن من تجنُّب أزمات الديون السيادية في المستقبل وتدفع على الأقل جزءاً من الديون.

الإفلاس ودولة الأمة

عندما تفلس شركة أو شخص، يتم عادة تعيين جهة ما لضمان أن المفلس سيتصرف بحكمة في المستقبل. لكن الأمر يختلف في حالة دولة الأمة لأنها قائمة على افتراضين. الأول أن الأمة تمثل مجتمعاً شرعياً فريداً يشترك أعضاؤه في مجموعة من المصالح والقيم. الثاني هو أن الدولة تنشأ بطريقة ما من الإرادة الشعبية وأن الإرادة الشعبية وحدها لها الحق في تقرير ما تفعله الدولة. لا شك أنه، بالنسبة لأوروبا، فإن مبدأ تقرير المصير قيمة أخلاقية أساسية. ولا شك أن اليونان دولة أمة وأن حكومتها، بحسب هذا المبدأ، تمثل الشعب اليوناني وهي مسؤولة عنه.

لذلك فإن الألمان يقترحون أن تقوم اليونان بتحويل حقها الوطني في تقرير المصير إلى مُشْرف. الألمان يقولون إنه بسبب فشل الدولة اليونانية فإن الدائنين من حقهم تجميد مبدأ حق تقرير المصير. وحيث إن هذا المفهوم يتم طرحه في أوروبا فإنه مفهوم متطرف. ولذلك من المهم أن نعرف كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد.

دور ألمانيا في أزمة الديون

كان هناك سببان: الأول أن الديموقراطية اليونانية، مثل كثير من الأنظمة الديموقراطية، تطالب بأن يستفيد الشعب من الدولة، والسياسيون الراغبون في أن يتم انتخابهم يجب أن يقدموا هذه الفائدة. لذلك فإن هناك ضغوطاً وراثية على النظام كي ينفق بإفراط. السبب الثاني يتعلق بوضع ألمانيا كثاني أكبر دولة مُصدِّرة في العالم. حوالي 40% من إجمالي الناتج المحلي الألماني يأتي من الصادرات، كثير منها إلى الاتحاد الأوروبي. في حديثهم عن التعقل في الإنفاق المالي والرعاية، الألمان لديهم مصلحة في تسهيل الاستهلاك والطلب على صادراتهم عبر أوروبا. ودون هذه الصادرات، ستغرق ألمانيا في الكساد الاقتصادي.

لذلك استخدم الألمان مؤسسات وإجراءات الاتحاد الأوروبي للحفاظ على الطلب على منتجاتهم. ومن خلال وحدة العملة، مكَّنت ألمانيا دولاً أخرى في منطقة اليورو من اقتراض مبالغ لا تسمح اقتصادياتها بتحملها. وبهذا شجَّعت ألمانيا الطلب على صادراتها من خلال تسهيل ممارسات إقراض غير مسؤولة في أوروبا.

بصورة ما، الاقتراح الألماني يكشف فقط ما كان دائماً حقيقة واقعة: إذا أرادت اليونان إعادة هيكلة ديونها، عليها أن تفرض إجراءات تقشف قاسية، وهذا ما وافقت أثينا على أن تفعله. يريد الألمان الآن تعيين مفوَّض لضمان أن الحكومة اليونانية ستنفذ وعدها. وفي خلال ذلك، ستحد أزمة الديون بشكل كبير من الديموقراطية في اليونان بتحويل العناصر الأساسية في السيادة اليونانية إلى أيدي المفوَّضين الذين مصلحتهم الأولى هي دفع الدين، وليس المصالح الوطنية اليونانية.

خيارات اليونان

لدى اليونانيين خياران: الخيار الأول أن يتحملوا مسؤولية الديون وفقاً للشروط التي تم التفاوض عليها ويقبلوا بالقيود على ميزانيتهم ونظامهم الضريبي سواء تم فرضها من قِبل مفوَّض أو من قِبل جهة أقل رسمية. الخيار الثاني هو التخلُّف عن الدفع. وكما رأينا من سلوك الشركات فإن الإفلاس أصبح خياراً استراتيجياً محترماً.

عدم الدفع قد يؤدي إلى تجميد اليونان في عالم أسواق المال. ولكن حتى إذا لم يتخلفوا عن الدفع، سيكونون موجودين في هذه الأسواق فقط تحت ظروف مقيدة.

المعضلة الألمانية

الألمان عالقون في ورطة. فمن ناحية، ألمانيا هي آخر دولة في أوروبا تستطيع أن تتحمل تقشفاً عاماً في دول تعاني من مشاكل وما ينتج عن ذلك من انخفاض في الطلب. ومن ناحية أخرى، لا تستطيع ألمانيا أن تتحمل استهتاراً شبيهاً باستهتار اليونان بالتعقل في السياسة المالية.

ويجب أن يكون لدى ألمانيا حل هيكلي يحافظ إلى حد ما على الطلب في دول مثل إسبانيا أو إيطاليا؛ وعلى الألمان أن يظهروا أن هناك عواقب لعدم الالتزام بالتعامل المنتظم مع الديون دون التخلف عن الدفع. وفوق كل ذلك، على الألمان أن يحافظوا على الاتحاد الأوروبي حتى يستمتعوا بمنطقة تجارة أوروبية حُرة. لذلك فإن هناك توتراً متأصلاً بين المحافظة على النظام وفرض الانضباط.

طرح ألمانيا لقضايا تتعلق بالسيادة زادت مخاطر أزمة الديون بشكل كبير. حتى لو تراجع الألمان عن هذا المطلب، فقد ذكر التحرك الألماني الشعب اليوناني بأن الديموقراطية اليونانية في خطر. ومع أن اليونان ربما اقترضت بشكل غير مسؤول، إذا كان ثمن ذلك السلوك التنازل عن السيادة لمفوَّض غير مُنتخَب، فإن الثمن لن يتحدى المبادئ اليونانية فقط، بل سيدخل أوروبا في أزمة سياسية جديدة. وفي الأزمة الجديدة، ستتحول قضايا الديون السيادية إلى تهديد للاستقلال الوطني والسيادة الوطنية. وإذا كنت مديناً بكثير من المال ودائنوك لا يثقون بك، فإنك ستخسر حق تقرير المصير في أكثر القضايا أهمية. وبما أن ألمانيا كانت الكابوس التاريخي لمعظم أوروبا، وأن ألمانيا هي التي تدفع بهذا المبدأ، فإن النتيجة يمكن أن تكون متفجرة. كما أنها يمكن أن تكون عكس ما تحتاج إليه ألمانيا.

يجب أن تكون لدى ألمانيا منطقة تجارة حُرة في أوروبا، وتحتاج أيضاً إلى طلب أوروبي قوي على صادراتها. كما تريد ألمانيا التعقل في ممارسات الاقتراض. وألمانيا يجب ألا تسبب في عودة المشاعر المعادية لها كما كان في عهود سابقة. هذه احتياجات متعددة، وبعضها يتضارب مع البعض الآخر. ومع أن اليونانيين هم القضية، إلا أن الألمان هم الذين يثيرون بشكل متزايد علامات الاستفهام.

فإلى أي مدى هم مستعدون للذهاب، وهل هم يفهمون مصلحتهم الوطنية بشكل كامل؟ يبدو أن هذه الأزمة لم تعُد مجرَّد أزمة يونانية أو إيطالية. إنها أزمة الذي ستلعبه ألمانيا في أوروبا في المستقبل. الألمان لديهم عدد من الأوراق، وهذه هي مشكلتهم: بوجود كل هذه الخيارات، عليهم أن يأخذوا قرارات صعبة – وهذا ليس أمراً سهلاً لألمانيا ما بعد الحرب.