على مدى عدة عقود رفض الاتحاد الأوروبي قبول تركيا عضواً فيه، لأنها في نظره كانت متخلّفة اقتصادياً، مقارنة بدول الاتحاد. وقد كان ذلك صحيحاً فترة من الزمن، وإن كان هناك الكثير ممن دعموا عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي على الرغم من وضعها الاقتصادي السيئ، أملاً في أن تسهم عضويتها فيه في تحسين أوضاعها الاقتصادية.

وإلى عشر سنوات مضت، كان اقتصاد تركيا ناشئاً يعاني كل أمراض سوء الإدارة، إذ تجاوز عجز الموازنة السنوية 15%، أي خمسة أضعاف الحد المقبول عادة. أما معدل التضخم فقد تجاوز 70% في ذلك الوقت، أي أضعاف معدلات التضخم في أوروبا، ولهذا كان للرافضين لعضويتها حجتهم.

أما اليوم فالاقتصاد التركي أفضل حالاً من معظم اقتصادات الاتحاد الأوروبي في سرعة تعافيه من الأزمة المالية العالمية. ففي حين ترزح دول أوروبا تحت أعباء هذه الأزمة، والسعيد منها من يتمتع بنمو اقتصادي في حدود 1%، سجّلت تركيا في الربع الأول من هذا العام نمواً بنسبة تجاوزت 11%، مما يجعلها ثاني أسرع اقتصاد في النمو والخروج من الأزمة بعد الصين.

والأساسيات الاقتصادية لتركيا قوية، فعلى الرغم من الأزمة، لم يتجاوز معدل الدَّين الحكومي 50%، مقارنةً بمعدلات المديونية الأوروبية التي تجاوزت ذلك بكثير وتعدت 100% في عدد من الحالات، في حين أن الحد الأقصى المسموح به في منطقة اليورو 60%. بل قد تتمكن تركيا من تخفيض عجز الميزانية إلى 3% العام القادم، في حين لا يُتوقع أن يحقق الكثير من أعضاء منطقة اليورو هذا الشرط المنصوص عليه في الاتفاقية. أما معدل التضخم فقد انخفض من 72% إلى 8%.

وأحد أسباب سرعة خروج تركيا من الأزمة الاقتصادية أنها استطاعت التعويض عن انخفاض صادراتها إلى أرووبا بالتوجه إلى أسواق لم تتأثر بنفس الدرجة من الأزمة المالية- مثل روسيا ودول مجلس التعاون، والعراق وإيران وسوريا. وينطبق ذلك على صادراتها من السلع والخدمات على حد سواء، ففي مجال الصادرات السلعية، ارتفعت صادرات تركيا بنسبة 13% خلال شهر يونيو 2010م عن عام 2009م، وجاء النمو خاصة من ارتفاع صادراتها إلى روسيا وإيران والعراق ودول مجلس التعاون. وفي مجال الخدمات أصبحت بعض البنوك التركية تحقق أكثر من ثلث أرباحها من الأسواق الروسية، وبالمثل كان النمو في قطاع المقاولات مميزاً في أسواق العراق. أما في مجال خدمات النقل الجوي، فعلى الرغم من الأزمة العالمية، استطاعت الخطوط التركية تحقيق أرباح بلغت نحو 400 مليون دولار عام 2009، وهي من ضمن خمس شركات طيران فقط استطاعت تحقيق أرباح خلال ذلك العام، بسبب الأزمة الاقتصادية. وكان توسعها أيضا في الشرق، خاصة روسيا والعراق، ومما عزز من أرباح الشركة أن تركيا تمكنت من استقطاب السياح من دول المنطقة وخارجها، بما عوضها عن السياح التقليديين الذين انخفضت أعدادهم نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية.

وأحد أهم الأمثلة على الأولويات الجديدة لتركيا هو تصميمها على تطويرعلاقاتها مع دول مجلس التعاون. واستجابةَ لذلك، كان أول "حوار استراتيجي" تعقده دول المجلس مع تركيا، حين عُقد اجتماع بين وزراء خارجية دول المجلس ونظيرهم التركي، في جدة في سبتمبر 2008م، ثم عقدت جولة أخرى من الحوار الاستراتيجي بين الوزراء في إسطنبول في يوليو 2009م، ومن المقرر عقد الاجتماع الوزاري الثالث هذا العام في الكويت. ووقع الجانبان عدداً من الوثائق التي تنظم وتؤسس للحوار بينهما في جميع المجالات، تبعها عقد اجتماعات بين الفنيين والمتخصصين من الجانبين وتشكيل لجنة اقتصادية مشتركة عقدت أول اجتماع لها في مايو 2010.

وقد انعكس هذا الاهتمام إيجاباً على التبادل التجاري بين دول المجلس وتركيا، الذي تضاعف عدة مرات خلال سنوات قليلة، ففي حين كان حجم التبادل التجاري بينهما أقل من ملياري دولار في عام 2002، تجاوز (17) مليار دولار العام الماضي، أي أكثر من ثمانية أضعاف خلال أقل من ثماني سنوات. وهو إنجاز كبير.

وصاحَبَ هذا النمو في العلاقات الاقتصادية نموٌّ في الحضور التركي السياسي في المنطقة، وهو حضور ربما نبع من منطلقات حزب العدالة والتنمية الحاكم وقناعات قادته، ولكن الدعم الشعبي لهذا التوجه سيتحدد جزئياً من خلال المردود الذي يجنيه المواطن التركي من هذه "السياسات الشرقية" لتركيا، أي توجه تركيا نحو جيرانها الشرقيين، بما في ذلك روسيا، ونبذ العداوات السابقة التي فرضتها ظروف الحرب الباردة والتحالفات السابقة لتركيا.