قبل عدة رسائل إلكترونية من مجموعة من المبتعثين السعوديين أطلقت على نفسها "أمل وطن"، وهي تتكون ـ كما فهمت ـ من عدد كبير من صفوة شبابنا وشاباتنا الذين ينتشرون في العديد من الولايات المتحدة الأمريكية، ينهلون من جامعاتها المرموقة العلم والمعرفة والتجربة والخبرة والحضارة والحرية وكل مفردات التقدم الحضاري. كانت "الإيميلات" كثيرة ومتنوعة، ولكنها أيضاً ممزوجة بالفرح والحزن، لأنها تارة تسجل النجاحات والشهادات والإنجازات والطموحات التي يسطرها أبناء وبنات الوطن، وتارة أخرى حزينة ومؤلمة لأنها ترصد المشاكل والمعوقات والاحتقانات التي يتعرض لها أمل هذا الوطن ومستقبله.

لقد انقطعت عني أخبارهم، سواء السعيدة أو الحزينة، ومنذ أكثر من شهرين تقريباً لم يصلني أي إيميل من تلك المجموعة الرائعة التي اختارت لنفسها عنواناً جميلاً ومعبراً "أمل وطن"، وأظنهم كذلك. كم أنا حزين لذلك الغياب الذي أتحمله وحدي، ولكن ثمة أمر مهم قد يغيب عن بعض القراء الأعزاء، وهو أن الكاتب ـ وإن بدا شجاعاً وجريئاً ومؤثراً ـ لا يملك كل مفاتيح اللعبة، بل إنه في كثير من الأحيان لا يملك شيئاً إلا بعض الأمنيات والأحلام التي يكتبها بشيء من الخجل والعفوية علّها تلامس جرحاً هنا، أو تُدير البوصلة هناك. الكتابة الصحفية رغم وهجها وحماستها وتطلعاتها تصطدم كثيراً ببعض القناعات والاعتبارات والتداعيات التي تقف أمام تحقيق حلم مواطن بسيط يسكن في أقصى الشمال، أو تنفيذ مشروع حيوي في إحدى قرى الجنوب.

كنت أظن أنني نسيت كل ذلك، كما هي عادتي دائماً، ولكن الخبر المدوّي ـ بالنسبة لنا على الأقل ـ الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية وبعض وسائل الإعلام العربية، ونشرته على استحياء وفي مساحات صغيرة ومتوارية بعض صحفنا الوطنية، تماماً كما هي عادتنا العربية الأثيرة على قلوبنا وعقولنا في التعاطي مع المؤشرات الإيجابية والنماذج الملهمة. يُشير الخبر وباختصار شديد إلى أن بلدة تينيك بولاية نيو جرسي الأمريكية اختارت مسلماً متديناً كعمدة لها وعينت كذلك يهودياً أرثوذوكسياً نائباً له في خطوة سباقة وتاريخية جسدت المفهوم الحقيقي للتعايش السلمي بين مختلف الأديان والطوائف والثقافات والاتجاهات، ويشعر سكان تلك البلدة "الفاضلة" بأن هذا الاندماج المتنوع خطوة تقدمية ورائدة نحو مجتمع واحد يسوده التسامح وتقبل الآخر محطماً بذلك تلك الصور النمطية التي ساهمت في تكريس الانقسامات الدينية والأزمات السياسية. محمد حميد الدين وآدام غوسين تزاملا في مدرسة تينيك المتوسطة وتخرجا من نفس الجامعة، وهاهما يكملان المشوار معاً في هذه البلدة الرائعة لإشاعة ثقافة التسامح ولترسيخ مبدأ الشراكة الإنسانية. انتهى هذا الخبر الذي يستحق أن يُثبت في الصفحات الأولى لصحفنا الوطنية، بل وفي عقولنا وقلوبنا!

قرأت هذا الخبر الصغير بشيء من الحسرة والألم، لأنني مازلت أتذكر جيداً أحد تلك الإيميلات الحزينة التي جاءتني من تلك المجموعة الرائعة "أمل وطن"، وكان مثخناً بالحزن والشكوى بسبب تنامي بعض الممارسات والتجاذبات والتصادمات التي تحدث بين مبتعثينا من أبناء وبنات هذا الوطن العزيز. حتى هناك حيث الفضاءات الواسعة من الحرية والانفتاح والتحضر والتسامح والاندماج وتقبل الآخر وتعدد الديانات والمعتقدات وتنوع الطوائف والثقافات وباقي السلسلة الذهبية من منظومة المجتمعات المتحضرة، هناك خارج أسوار الوطن، وبعيداً عن "خصوصية" هذا المجتمع "المحافظ" يحمل شبابنا وشاباتنا في حقائبهم تماماً كما في عقولهم وسلوكهم وتحركاتهم الكثير من المفردات الكريهة من قاموس التخلف والتحجر. الحضور القوي لبعض الحالات المقيتة من الازدراء والتعصب والإقصاء والتهميش والطائفية والقبلية والفئوية بين أوساط هذا الجيل الواعد الذي تنتظره مهمات كبرى بعد العودة لأرض الوطن أمر يستحق الاهتمام ويتطلب المتابعة والتصدي. هل يُعقل أن يحدث كل ذلك هناك في دول الابتعاث، وكأن تلك المسافات البعيدة من الأميال والعلوم والمعارف والحضارة والتقدم والازدهار لم تُغير من تلك العقول الطرية والقلوب الغضة! أن تعود تلك الطيور المهاجرة بعد كل تلك السنين محملة بنفس الأفكار والصور والقناعات والأحكام لأنها انتقلت من بعض المحاضن الوطنية إلى مثيلاتها في هيوستن وشيكاجو وباتن روج أمر غاية في الخطورة ويتطلب الدراسة والمراجعة.

إن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي هو الإنجاز الأهم والأغلى في تاريخ هذا الوطن، لذا يجب المحافظة عليه لضمان نجاحه واستمراره، والاستفادة القصوى من مخرجاته.