مع بدء انحلال السلطنة العثمانية، شهدت البلدان العربية والإسلامية، ظاهرة هجرة عدد من الباحثين الغربيين إليها. وقد اعتنق بعضهم الدين الإسلامي الحنيف. وفيما بين الحربين العالميتين تكاثر أعداد هؤلاء، متوزعين في اهتماماتهم العلمية، والمناطقية.
ومنذ ذلك الحين، والسؤال يطرح بقوة: هل ينبغي النظر إلى هؤلاء المستشرقين باعتبارهم عشاق علم، دفعهم سحر الشرق، والرغبة في فك طلاسمه وأسراره إلى الهجرة لهذا الجزء من العالم؟ أم أنهم طلائع عسكرية متقدمة، بأزياء علمية للتمهيد لمشاريع استعمارية قادمة. وقد دعوا بالمستشرقين، لأنهم يهتمون بالشرق. وليس لذلك دلالة على مكان محدد بذاته، أو بزمن معين. إن الاستشراق، بشكل عام، يشمل دراسة الشرق ومعرفته وفهمه.
وحسب قاموس أكسفورد فإن المستشرق هو الذي يتبحر في لغات الشرق وآدابه وعلومه. ويطلق الاستشراق كمفهوم على الاتجاه الفكري الذي يعنى بدراسة الحالة الحضارية للأمم الشرقية بصفة عامة، وحضارة الإسلام والعرب بصفة خاصة.
ويرى إدوارد سعيد في كتابه: “المعرفة، السلطة”، أن دلالة الاستشراق الأكاديمية، تشمل من يقوم بتدريس الشرق أو الكتابة عنه أو بحثه، في المجالات المختصة بعلمي الإنسان والاجتماع، سواء أكان المعني بذلك مؤرخاً أو فقيه لغة. إنه أيضاً يتضمن الموقف التنفيذي السلطوي للاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهدفه الحفاظ على السيطرة الثقافية عن طريق القبول أو الضغط الاقتصادي المباشر من قبل الغرب.
ويقترب أنور عبد الملك في موقفه من الاستشراق من هذه الرؤية، حيث يلاحظ في دراسته: “الفكر العربي في معركة النهضة” أن المستشرقين الذين صحبوا نابليون أثناء الحملة على مصر بهدف دراسة الآثار المصرية لم يطرحوا أنفسهم كعلماء آثار ولغويين فحسب، بل زاوجوا بين السلطات العلمية والسياسية، وتعاونوا مع أهدافها بشكل كامل، وخير دليل على تلك الغايات هو تهريب المسلات وغيرها من الآثار الثمينة إلى الدولة الأم أو المركز.
أما عمر فروخ، فيرى أن المستشرقين هم نفر من العملاء الغربيين المهتمين بأحوال الشرق، وأن ذلك نشأ بعد الحروب الصليبية نتيجة لعوامل سياسية هدفت لتقديم معلومات ومعارف للقوى الاستعمارية الغربية الفتية، عن أحوال الشرقيين، تسهل على رجال السياسة في الغرب تحقيق الاختراق السياسي والعسكري، وتجعل من التعامل مع أمور الناس العملية في الشرق الغني أمراً ممكناً. وإنه أيضاً غاية دينية لخدمة المبشرين في نشر ديانتهم بين الشرقيين من مسلمين وغير مسلمين. أما الذين انطلقوا من إعجاب خالص لمعرفة أدب العرب خاصة، وفلسفة وعلوم العرب فهم قليلون قياساً بالذين رغبوا في الاستشراق اندفاعاً في أهدافهم السياسية والدينية.
في كل الأحوال، ينبغي التمييز في الدراسات الاستشراقية بين الإنجازات التي تحققت في الحقول العلمية البحثية من مخطوطات ونشر، ووثائق ومعاجم وفهارس، وتحقيق نصوص وغيرها، وبين الجانب الأيديولوجي الذي يغلب على الدراسات الاستشراقية، والتي ترد في الأطروحات ومناهج البحث عند تناول الدين الإسلامي الحنيف والقرآن الكريم والسنة النبوية. لكن ذلك لا يعني أن النوع الأول من الدراسات، حتى وإن التزم بمقاييس علمية في التحليل والاستنتاج، بريء تماماً، ولم تقف خلفه غايات سياسية، فليس من شك في أن المستشرق قد انطلق من أرضيته الثقافية، ووعيه الخاص، وأدوات تحليله بما في ذلك النظريات وطرق البحث. إن استنتاجاته وليدة بيئته ومتحيزة بالضرورة لصالح المركزية الغربية وغير عادلة، وما يضاعف في طبيعة الإنحياز هو ارتباطه بعصر الإمبريالية والكشوف الجغرافية، والانطلاق من المركزية الأوروبية .
لكن هذا الاستنتاج يجب ألا يغيب عنا حقيقة أن كثيراً من النقد الذي نمارسه نحن بحق الاستشراق يتم بمعايير ذاتية، وبإسقاط واقعنا وظروفنا المحلية والقومية على تلك الأنشطة، ومن هنا فإن القراءة تكون في الغالب هي قراءة الأنا للآخر.
كان هناك دائماً متخصصون ودارسون أجانب أعطوا من جهدهم اهتماماً كبيراً بالشرق منذ وقت مبكر، إلا أنه كظاهرة أدبية وثقافية بأبعاد سياسية، برز بوضوح مع الهجمة الاستعمارية التقليدية على المنطقة العربية. إن كثيراً من الدراسات التي رصدت واستقصت أدوار الحركة الاستشراقية، تشير إلى أنها كانت في معظمها جزءاً من المقدمات التي هيأت لاحتلال الوطن العربي، لكن ذلك لا يعني عدم وجود مستشرقين متعاطفين مع حق شعوب في تقرير المصير. لقد كان هناك منصفون، درسوا التاريخ والثقافة والآداب العربية، بتأن وروية وقدموا دراسات ثمينة، ما زالت حتى يومنا هذا تعتبر أحد مصادر المعرفة والتاريخ عن المشرق العربي.
لقد تزامنت ظاهرة الاستشراق مع الهيمنة والاهتمام بالبلدان المكتشفة كموضوع له سحر التاريخ، وله أيضاً عمقه الاقتصادي والاستراتيجي القابل للاستثمار. إن الامتداد والتوسع أديا إلى انتشار الظاهرة كجزء من عملية الكشف التي تمثل مقدمات أولية وأساسية لتحقيق عملية الاختراق. وفي هذا الصدد يشير مكسيم رودنسون إلى أن المستشرقين يبدؤون بدراسة اللغات وجميع المواد تحت دوافع أيديولوجية كاملة، تمثل أقنعة تخفي وراءها رغبات الهيمنة والتحكم.
وهكذا يجري فهم التطابق الكبير بين خريطة التوسع الأوروبي، والتقدم في مؤسسات الاستشراق، وهو ما يوضح اتساع نشاط العمل الاستشراقي في الفترة بين 1865- 1914 التي شهدت شيخوخة السلطنة العثمانية، وبدء الانقضاض الأوروبي على تركتها، والتي تضمنت توقيع اتفاقيات ومعاهدات ضمنت للأوروبيين حصصاً كبيرة في ممتلكات السلطنة، كما شهدت استقلال عدد كبير من دول البلقان.
إن هذه القراءة تطرح علامات استفهام كبيرة على التوصيف المألوف للمستشرقين الذي لا يرى فيهم سوى مجموعة من الحالمين، تحركهم بشكل فرادى، شهوة المغامرة في بلوغ أقاصي الشرق، وإن تلك الشهوة ربما تصدر عن فنان أو رحالة أو فيلسوف. فلقد كان هناك على الدوام، باستثناءات قليلة، أسباب أخرى وأهداف محددة سلفاً يبحث عنها المستشرق في البلاد المضيفة، التي يجري التخطيط للانقضاض عليها وعلى ثرواتها. ومع ذلك تبقى القراءة بحاجة إلى المزيد من التدقيق والتحليل.