لعل الإعلان عن جائزة مكة للتميز في دورتها الثانية جاء ثقيلاً بعض الشيء على المثقفين، حيث تم حجب الجائزة في المجال الثقافي لعدم رقي ما تم تقديمه من أعمال إلى المستوى المطلوب من التميز. وقد أوضح صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل في حفل الإعلان عن الفائزين بالجائزة لهذا العام السبب لهذا الحجب بوضوح فقال: "إن مستوى التميز لدينا هو ما يصل إلى حد الإبداع، ولما هو أرقى وأعلى من العادي." هذا هو السبب المباشر للحجب، وهو سبب لا شك وجيه. لكن، ولأن السبب له مسبب أيضاً، فإن هناك بكل تأكيد سببا (أو جملة أسباب) لعدم رقي ما قدم إلى مستوى الإبداع الذي تنشده الجائزة. والبحث في هذه الأسباب هو في نظري المطلوب منا جميعاً لكي لا يجد الإبداع الثقافي السعودي نفسه محجوباً مرة أخرى في الأعوام القادمة.
إن الثقافة والمشاريع الثقافية لا تزدهر أو تصل حد الإبداع إلا من خلال بيئة حرة غير مقيدة بالبطء التقليدي للمؤسسات الحكومية، والتي تسير فيها قاطرة الثقافة حسب خطوط مرسومة وميزانيات محدودة وفي جو يؤدي إلى تواضع الإبداع إن لم يكن تلاشيه كلياً. ونتيجة لتأطر الحركة الثقافية وأدواتها عبر غابة من القيود التنظيمية التي تسنها جهات مختلفة، غابت المشاريع الثقافية الكبرى كما تحجمت المؤسسات الثقافية في أطر ضيقة لا تعبر عن روح الإبداع التي تختلج في النفوس. والمشاريع الثقافية الإبداعية تنطلق من ملكات فكرية لا تنتظر تصريحاً على الورق. ولقد أثبتت المؤسسات الثقافية الرسمية عدم قدرتها على المنافسة في مجال التميز والإبداع لعدة ظروف قد لا يكون هنا المجال للبحث فيها، رغم الجهود الكبيرة والمشكورة للأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون، كونها المتنفس الوحيد للمثقفين في الوقت الحاضر.
إن واحداً من أهم الحلول لعسر الإبداع يكمن في نظري في إطلاق أجنحة الفرد بعيداً عن القيود والفروض الرسمية لتحلق في سماء التميز كما يكمن في إفساح المجال أمام الجمعيات الأهلية الثقافية لتعمل من منطلق مبادرات أفرادها الفاعلين والمتحمسين دون انتظار التصاريح الرسمية لمؤسسات المجتمع المدني الثقافية.
وهنا لا بد أن أذكر أنني شخصياً، وخلال عام واحد، عشت مخاض ولادة جمعيتين ثقافيتين (جمعية الكلمة السعودية ونادي جدة للإعلام والثقافة) واللتين لم تنطلقا في فضاء العمل أو تريا النور بعد في انتظار ذلك "التصريح الرسمي" وهناك دون شك العديد من الجمعيات والأندية الثقافية التي تمر عبر نفس المخاض أذكر منها على سبيل المثال (في منطقة جدة فقط) جمعية الإعلاميين السعوديين ونادي جدة للصحافة. والحق يقال، فإن معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة أبدى ترحيباً بهذه المؤسسات أو الجمعيات. لكن هناك من المعوقات والقيود الكثير مما يقف في طريق تشكل هذه المؤسسات الفردية والجماعية. فنظام المطبوعات والنشر والذي يعتبر مرجعاً لوزارة الثقافة والإعلام في إعطاء الترخيصات يعود إلى عام 1421 ولم يحدّث كي يشمل ولادة الثقافة كابن شرعي للوزارة فمواده لا تحتوي على أي إشارة للمؤسسات الثقافية إلا في المادة السادسة والتي تتعلق بإصدار المطبوعات والدوريات. وفي ذات السياق يلحظ المرء أن الكثير من الصالونات الثقافية أقفلت، وهناك صالونات وجمعيات تعطلت وهي تنتظر ذلك "التصريح".
ورد في التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية (الصادر عن مؤسسة الفكر العربي عام 2008) أن المؤسسات الثقافية العربية الفاعلة قد بلغت 1707 مؤسسات موزعة مابين مؤسسات ثقافية رسمية (889) خاضعة لوصاية الدولة ومؤسسات أهلية غير حكومية (775) تعتمد على جهود الفاعلين في المجتمع المدني ومؤسسات خاصة (43) تستمد فاعليتها الثقافية من جهود فردية خاصة ويتم تمويلها من قبل الأفراد. وتبين هذه النسب المتفاوتة أن المؤسسات الخاصة تشغل حيزاً ضيقاً في الخريطة الثقافية العربية الكبرى. والوضع في السعودية أكثر قتامة إذ لا توجد مؤسسات ثقافية خاصة أو أهلية باستثناء الصالونات والملتقيات الأدبية والثقافية والتي تزدهر أحياناً وتنحسر أحياناً أخرى أو قد تتعرض للإيقاف أحياناً دون مبرر جوهري.
إن هذا الوضع يحتم علينا التفكير بجدية في حلول للخروج من دائرة الإحباط والانغلاق في مجال العمل الثقافي الرسمي نحو المزيد من المرونة والتسهيل لعمل المؤسسات الثقافية الأهلية والخاصة، فالثقافة في بعدها الفردي والجماعي الحر هي الأداة الوحيدة الدافعة نحو التميز. وإذا ما أردنا فعلاً الحصول على تميز إبداعي ثقافي علينا أولاً إفساح المجال أمام الأفراد والجمعيات الثقافية الأهلية للعمل بأسرع وقت ممكن فقد طال الانتظار.