إذا سلِّمت بأن أمريكا غزت العالم منذ مطلع القرن الماضي، فإن الجانب العسكري هو أضعف، وربما أفشل جوانب غزوها! أما الجانب الأقوى الذي بسط الشخصية الأمريكية على الكرة الأرضية بكاملها فهو "الصناعة الإعلامية"، القائمة على الفلسفة "البراجماتية"، وجاءت "هوليوود" أبرز ثمارها، ثم أهم أدواتها، فالثمار عادةً ما تحمل البذور! وقد ضربنا مثلاً ـ في نشرة منذ "مبطي"! ـ بأول فيلم أنتجته بعد أحداث 11 /9 وهو "Ali"؛ حيث تم اختياره بعناية "أمريكية" فائقة؛ ليقدم نموذجاً "أمريكياً" واقعياً لا أسطورياً، فشل ثلاث مرات، لكنه يخرج بعد كل مرة أقوى مما كان! فليس النجاح أن تنسى الفشل؛ بل أن تتجاوزه!
وها أنت أمام برنامج "America's got talent" وترجمتها حرفيا: "أمريكا تمتلك الموهبة/ أمريكا عندها موهبة" أو معنويا: "أمريكا الموهوبة"، أو دلاليا: "أمريكا الموهبة"، وتسأل: لماذا "أمريكا" وليس "الأمريكان"؟ فإذا استحضرت طواف البرنامج بعدة مدنٍ وولاياتٍ أمريكية ـ بعيداً عن التصويت العنصري الإقليمي ـ أدركت الاحترافية العالية في غرس الوطنية الحقة في "العقل الباطن"، وسقياها بدم العروق! ولا تقارنها بإعلامٍ آخر؛ رفقاً بعقلك الظاهر، وضغطك العالي!
ومازلنا في العنوان: لماذا "got" وليس "has"؟ وكلاهما يدل على الملكية؟ ولماذا "talent" وليس "gift"؟ أليس تكريساً لـ: أن الموهبة ـ وإن كانت هدية إلهية ـ "بذرة" لابد لها من حرث، وزراعة، ورعاية، وصقل، وطول دربة، ومعاناة للوصول إلى أعلى مستويات الإتقان؟! وأن النجاح ـ وإن كان توفيقاً ـ لا يأتي بسهولة، ولابضربة حظ، ولا بواسطة "تشق القربة"! بل بالعمل، والصبر، والإصرار؟! ولهذا يتقدم للبرنامج من هم في الخمسين، والستين، بل والسبعين! بينما تعتقد ثقافات أخرى أن الموهبة خاصةٌ بالشباب، ولا فضل للموهوب؛ فماهي إلا إلهامٌ خارجيٌّ، ومـِمَّن؟ من "الجن"، اسم الله علينا، وإن "عصلقت معاك" فعليك بالفيتامينات، ومشروبات الطاقة، و"الصنف" وإن كان مضروباً!
ولأن "أمريكا" هي "الموهبة"؛ لابد أن يصمد المتسابق لأقسى درجات النقد "الانطباعي" من لجنة التحكيم الثلاثية، التي لاتتورع عن السخرية اللاذعة، لكنها لاتتحفظ في الاحتفاء بالمواهب الحقيقية، احتفاء عاطفياً مؤثراً في كثير من الحالات! وبقدر مايدهشك تقبل المتسابقين للنقد، فلن تشكك في نزاهة الحكام ودقتهم، بحيث يقف الجميع حائراً في الاختيار من بين آخر عشرة ثم خمسة متسابقين، وهنا يأتي دور الجمهور للحسم، فمهما كان الفائز فإن أمريكا هي "الموهبة الموهوبة"!
ومرة أخرى: لا تقارن بأي "شاعر مليون مكعَّب"؛ رفقاً بما تبقى من "مراراتك"!