ضحكت ابنتي وهي تروي لي فلسفتها عن السفر والترحال.. قالت: الشباب يرغبون ويقدرون ولكن الجيب فارغ، وكبار السن العجائز ممتلئة جيوبهم ، مهترئة مفاصلهم فيريدون ولا يقدرون.
ضحكت أنا وقلت : إذن نقلب المعادلة ، فيعطيكم العجائز ما جمعوا من تعب العمر فتتمتعون أنتم (الشباب) بالمال والرحلات ورؤية السهول والقفار والشعوب والثقافات. فضحكنا معا لهذا الحال الذي لن يتحقق قط.
يكدح الإنسان ويجمع المال لكبره وعجزه وشيخوخته وفقره ومرضه، فإذا جاء الوقت وامتلأ الجيب وفاض جاء الأجل في موسم الجنازات!
فهل هناك من حل وسط؟
لقد اخترع نظام العمل أمرا جميلا في منح الموظف إجازة شهرية كل سنة، فيرتاح ويجدد نفسيته ويمد مفاصله وعضلاته، ويبدل الجو من حوله بالجديد والتعرف على لون بهيج من الحياة.. فالتغيير نفسه بهجة وتحرر.
وهنا يبدأ الجدل الثاني ، و هو جدل الفراغ، يتمنى الإنسان أن يعيش بقية حياته في إجازة، مالكاً لوقته غير مستعبد للدوام والحضور والتوقيع والانصراف، ولكن لو فعل جميع الناس هذا، لما بقيت حضارة ! بل كسالى و"تنابل" يتشمسون ويتسكعون مثل التماسيح على ضفاف الأنهار.
ويدخل هنا جدل ثالث، وهو اللعب والجدية. لقد وجد أن الطفل يقوم باكتشاف العالم من خلال اللعب وليس الجدية والخضوع للتوتر. ولو أننا نمارس أعمالنا بهذا الحب والاندماج لأنجزنا أفضل وعشقنا العمل فما تركناه.
في الواقع يعتبر تشكيل الدولة والمجتمع من جهة جيدا، ومن جهة ورطة وقع في شباكها الجنس البشري، فإنسان الغابة حر لا يخضع إلا لقانون واحد هو الجوع، أما إنسان الحضارة فهو يخضع لقانون الشبع والبدانة وتخريب الأجهزة الحيوية باستمرار.
وحسب برتراند راسل الفيلسوف البريطاني فقد جرب البشر أشكالا لا نهائية من أنظمة الحكم، ولم يصلوا بعد للشكل النهائي المريح، من أوتوقراطية وأوليجاركية وفوضوية واشتراكية وملكية وجمهوريات أو جملوكيات كما هو الحاصل عندنا، وهو في طريقه للتشكل في نصف القرن القادم .
أين نصل إذن في فلسفة السفر والترحال؟ في قناعتي على المرء أن يكثر من زيارة الأماكن الجديدة، وهناك ما لا يقل عن مئة موضع للزيارة في العالم تستحق المشاهدة، مثل سورالصين، وتاج محل في الهند، وبرج بيزا المائل في إيطاليا، وشلالات نياجارا في كندا، وقلعة المصيف في سوريا، وآثار الآشوريين عند الموصل، وطاق كسر قريبا من بغداد، والحي البرتغالي في مدينة الجديدة في المغرب، وطوبكاي في إسطنبول..
هذا إن كان من المقتدرين، وإلا فأوسطهم زيارة المغرب وبلاد الشام، وأضعفهم التمتع بجو داخلي متوفر في عسير وجزيرة فرسان... وهي اكتشافات لا يعرفها الكثيرون.
ولعل أعظم سياحة وترحال هي داخل النفس. يقول معتقل عن معاناته إن ما أبقاه على قيد الحياة، سيل الذكريات المنهمر، وكأنها حديقة غناء لا تنتهي من المناظر، فطوبى لمن فهم وأناب، وعرف أن الحياة كلها رحلة وسفر وسياحة.. فمستقر ومستودع... قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون.