ربما تكون ثقافة الابتكار والإبداع هي أبرز ما ينقص مجتمعنا اليوم، وهذه الثقافة التي لا نرى أهمية كبيرة لإثرائها ربما تكون هي مفتاح الحل السحري لجميع مشاكلنا بدءًا من التعليم ومرورا بأزمة المساكن وانتهاء بإصلاح المؤسسات العامة ومعالجة مشاكلها الإدارية، على أنه يظل الوعي العام بالابتكار مرتبطاً بالمخترعات الحديثة وتظل ثقافة قبول الأفكار المبتكرة في شؤون الإدارة أو السياسة أو الاقتصاد و غيرها من المسائل غائبة ربما بسبب الثقافة السائدة للمجتمع اليوم والتي ترى في التجديد والتطوير خطراً يجب درأه لا مطلباً أساسياً من أجل التقدم.
الابتكار لا يعني بالضرورة تقديم شيء جديد أو اختراعه، قدر ما يعني "الفكر الحر" القادر على تجاوز الأنماط الفكرية السائدة للمجتمع، فالابتكار الحقيقي لمجتمعاتنا لا يكمن في إعادة اختراع العجلة وإنما في اختيار نوع العجلة المناسب لنا والكيفية التي نستخدمها بها بناء على احتياجاتنا، وبالمثال فإننا لسنا بحاجة لإعادة اختراع أدوات للأكل ولكننا بحاجة لإعادة تعريف استخدامنا لها وحاجتنا لها، لماذا نلتزم بالإتيكيت الغربي في وضع الشوكة على يسار الصحن في حين أننا نستخدمها بيدنا اليمنى؟ أغلب الأشخاص في الغرب يستخدمون الشوكة باليد اليسرى والسكينة باليد اليمنى، وبالتالي يأتي ترتيبهما على طاولة الطعام اتباعاً لهذا المنطق، وفي حين أننا استوردنا إتيكيت استخدام الشوكة والسكينة، فإننا قمنا باستيراد القالب الجامد دون استيراد المنطق الخاص به.
الابتكار بحاجة إلى شجاعة من المجتمع على تجاوز النمط السائد، وإلى إيمان بأنه في الإمكان أحسن مما كان وأن التجربة خير دليل، وبالمثال فإن تعديل مكان وضع الشوكة والسكينة على طاولة الطعام لا يتطلب جهداً فكرياً قدر ما يتطلب ثقة في عملية التغيير، ومن ثم فالمسألة هي مسألة تغيير لنموذج التفكير الخاص بنا (Paradigm Shift) من القالب الجامد للمحافظة على النمط السائد إلى قالب مرن وحر يستخلص منطق الأشياء في تصميمها، ما الذي يمنع مجتمعنا من تغيير مكان الشوكة والسكينة؟ هل هو التعود؟ أم فقدان الثقة فيما نقدمه من تغيير؟
وبالمثال فإن النظر للقوالب الجامدة التي نتبعها في التفكير في الكثير من مشاكلنا كإصلاح القطاع الحكومي والارتقاء بأدائه، يكشف أن محاولة استخلاص الحلول من خلال استخدام الأنماط السائدة في التفكير هي محاولة لحل هذه المشاكل باستخدام الأدوات التي تسببت فيها في المقام الأول.
إن الابتكار ثقافة وصناعة بحاجة إلى دعم، فكم مدرساً أيدناه حين قام بتقديم فكرة مبتكرة للتدريس؟ وكم موظفاً ساعدناه في تقديم فكرة مبتكرة لخدمة عملائه؟ وكم مديراً رأيناه يبتكر أساليب جديدة للإدارة تنعكس على أداء إدارته؟ وكم مسؤولاً قدم أفكاراً مبتكرة للمشاكل التي بين يديه غير مجرد زيادة الصرف على المشاريع القائمة؟
مدينة نيويورك استطاعت خفض معدل الجريمة لأن مسؤولين فيها آمنوا بأن نظرية بسيطة تدعو إلى "إصلاح النوافذ المكسورة" (Fxing Broken Windows) تنعكس إيجاباً على زيادة الأمن، وهكذا نجد من حولنا العديد من الأمثلة على النجاحات فقط لأن من يقف خلفها آمنوا بوجود حلول خارج أنماط التفكير السائدة. إن تعديل مكان الشوكة والسكينة لا يبدأ من إعادة ترتيبهما على طاولة الطعام وإنما من إعادة ترتيبهما في عقولنا، وفي اقتناعنا بأن ليس كل ما ورثناه صحيحا، وأن ليس كل ما نقدمه من جديد هو خاطئا تلقائياً .. إن تعديلهما يبدأ من الثقة في قدرتنا على الابتكار وفي الثقة فيما نبتكره .. والتجربة خير دليل.