أولى خطى الإصلاح الوطني، وفي الشق الإداري بالتحديد، تكمن في حجم وكثافة الحكومة. والحكومة التي أقصدها من شقين: حجم الموارد البشرية وحجم تدخل وإشراف هذه الكوادر في القرار الإداري المتعلق بالاختصاص التنموي. والفكرة بكل اختصار أن ينتقل مفهوم الإدارة الحكومية من مصطلح الإدارة العامة إلى مصطلح إدارة الأعمال، بأن تكون الإدارة الحكومية سلطة إشراف وتنظيم أكثر من كونها سلطة تنفيذية خالصة.
وبالطبع فإن مقياس حجم الحكومة هو الفارق على سبيل المثال ما بين الحزب الجمهوري الأميركي وبين نظيره الديموقراطي. وعلى ذات القياس ما بين حزب المحافظين وحزب العمال البريطاني. أفكار (اليمين)، وهنا الجمهوري والمحافظون تجنح على الدوام إلى الترويج لحجم حكومة أقل وموظفين أقل، وإلى قوانين أكثر مرونة في أن تكون السلطة الإدارية للقطاع الخاص كي لا يتحول القطاع العام إلى أداة توظيف لمجتمع رعوي على جسد الحكومة العامة.
وخذ بالمقاربات والمقارنة مدى تطابق هذه الأفكار في بناء الهيكل الحكومي مع القطاعات التنموية المختلفة. خذ، مثالاً، في المجال الصحي أن ميزانية الوزارة تفوق بمقدار الربع أي ميزانية افتراضية يتم فيها تحويل المواطنين إلى التأمين الصحي، ومع هذا تبرهن مفاهيم إدارة الأعمال أن الإدارة العامة لن تصل بمستوى الخدمات الصحية إلى ما يمكن أن تصل إليه كفاءة واكتفاء السوق التنافسي في القطاع الخاص. خذ المثال الحي في كفاءة انتشار وتشغيل نظام الاتصالات عندما تم تحويله إلى قطاع خاص يدار بمفهوم إدارة الأعمال بعد شلل مستديم لمفهوم الإدارة العامة. ما ينطبق على الصحة ينطبق أيضاً وينسحب على بقية القطاعات الحكومية. نحن فشلنا فشلاً ذريعاً في أنظمة النقل الجوي، وفي قطاع سكة الحديد، حين تديرها قطاعات إدارية رسمية. نحن وبكل صراحة، شعب ضاغط على القطاع العام، لأننا مؤمنون بأمان الوظيفة الحكومية، رغم أن الكتلة البيروقراطية في جسد الإدارة العامة هي المسؤولة عن هذا الشلل التنموي الذي لا يؤدي إلا لخراج المعادلة الإدارية: ميزانية تشغيل هائلة ولكن بعوائد تنموية أقل من حجم المصروف.
نحن على رأس الهرم العالمي في حجم الإنفاق على الفرد في قطاع التعليم، ولكن بتصنيف يأتي بعد المئة في سلم المواد الأساسية. نحن رابع العالم في الصرف على القطاع الصحي ولكن بمردود أقل في الفائدة المقابلة من المخرجات الصحية. تكلفة تأهيل طالب الطب، مثالاً، تفوق بالثلث، حجم المصروف عليه حين ابتعاثه حتى لأرقى وأغلى الجامعات العالمية.. كل موظف جديد في الإدارة العامة إنما هو مسمار إضافي لا لزوم له في هيكل الماكينة.