ليلة السابع والعشرين من رمضان، وبجوار بيت الله العتيق يجتمع زعماء دول العالم الإسلامي من مختلف الإثنيات والعرقيات والقوميات واللغات، يجتمعون تحت مظلة واحدة، وباسم جامع واحد هو ذلك الدين الإسلامي العظيم الذي استطاع أن يمثل حضارة لا تتوقف عند حدود اللون أو العرق أو اللسان، وأن يمثل مرجعا ثقافيا وتاريخيا تشاركت فيه الكثير من أمم الأرض واجتمعت على قيمه ومبادئه، تلك القيم والمبادئ هي الركيزة الأبرز والأهم في اتساع رقعة أتباع هذا الدين، انطلاقا من قيم التعايش والحريات والتنوع، والتي سمحت لهذا الدين أن يصل إلى كل أصقاع العالم ويمثل بعدا حضاريا للإنسانية.
في الواقع ظل العمل السياسي الإسلامي بحاجة مستمرة لكثير من عمليات الإنعاش، خاصة أن كل دول منظمة المؤتمر الإسلامي غالبا ما تكون جزءا من تحالفات سياسية أو إقليمية تنطلق من جامع خلاف الجامع الديني، وفي سنوات مضت كانت العوامل الاقتصادية تهمين على معطيات بناء وتفعيل الكيانات السياسية، وقد أسهمت منظمة المؤتمر الإسلامي في ذلك لكن ليس على الوجه الذي ينافس تكتلات سياسية أخرى.
مع اندلاع الثورات العربية، ومع التغييرات الواسعة التي تطال مساحة واسعة من خريطة المنطقة، تتغير كثير من القوى التي كانت تدير تحالفاتها على أسس تختص بالنخبة السياسية الحاكمة أكثر من اختصاصها بالشعب وبثقافته وبالعوامل المشتركة بينه وبين غيره من الشعوب، والتي على رأسها الدين الإسلامي. بالنظر إلى خريطة العالم الإسلامي يتضح حجم القوة الواسعة والمتعددة على مختلف الأصعدة، السكانية والاقتصادية والطبيعية، إضافة إلى قوتها السياسية المعتمدة على قدرة تلك الدول على التأثير في محيطاتها الإقليمية، وقد حان الوقت الآن وفي ظل هذه التحديات لإعادة بث الروح من جديد في منظمة المؤتمر الإسلامي واستلهام كل عوامل القوة والتضامن التي تعيد هذا الكيان قويا ومؤثرا. من هنا كانت دعوة خادم الحرمين الشريفين لزعماء العالم الإسلامي، دعوة انطلقت من محاور تراقب الحاضر وترى مدى خطورته وحاجته لموقف جديد لهذا الكيان الإسلامي الواسع، ودعوة تنطلق أيضا من فهمه هذا الواقع الجديد والتحولات الواسعة التي يعيشها العالم، التي ستعاد معها صياغة الخريطة السياسية في السياسة عربيا وإسلاميا ودوليا مما يستدعي إعادة إحياء تلك القوة، ومن خلال أبرز رموزها الروحية والقيمية، بيت الله الحرام وشهر رمضان المبارك، وفي ليلة من لياليه المباركة، ذلك المشهد الذي يجمع قلوب أكثر من مليار مسلم، فالأولى أن يجمعه قادتهم على ما فيه قوة شعوبهم واستقرارها.
إن الضعف الذي اعترى العمل الإسلامي المشترك في السنوات الماضية هو الذي حول جانبا من ذلك التنوع داخل العالم الإسلامي ليتحول من كونه مصدر قوة وتعدد إلى مصدر فرقة وتشتت، لتظهر الطائفية المقيتة كواحدة من أبرز العلل التي توشك أن تضرب جسد العالم الإسلامي. من أبرز ما أسفرت عنه الثورات العربية التي شهدتها بعض بلدان المنطقة تلك الحالة المفزعة من الانكشاف الثقافي الذي ظهرت معه قابلية للتخندق والتحزب الطائفي، وإقامة العداء والموالاة داخل الوطن الواحد على ذلك الأساس، كان العراق أول البلدان العربية الإسلامية التي انفجرت فيها الطائفية لتتحول إلى لغة وخطاب حاضرة في الشارع الإسلامي بعد غياب طويل. ثم ما يحدث الآن في سورية، ليؤكد لنا ذلك أننا كنا أمام أنظمة تجعل من اللعبة الطائفية سياجا للاحتماء به والحفاظ على كرسيها، ثم ما لبث أن ظهر ذلك الوباء بعد سقوط تلك الأنظمة. أمام هذا الواقع جاءت دعوة خادم الحرمين الشريفين في الكلمة الافتتاحية للقمة، لتنادي بإقامة مركز للحوار بين أتباع المذاهب، وهي دعوة تنطلق من استيعاب لحقيقة أن ثمة مشكلة آخذة في التفاقم ويجب التصدي لها. لم يناد خادم الحرمين بحرب الطائفية هكذا، بل من خلال واحدة من أبرز الأدوات الحضارية في ترسيخ قيم التعايش؛ وهي الحوار، ثم إن أزمة الطائفية ليست أزمة اقتصادية ولا اجتماعية بقدر ما هي أزمة فكرية وثقافية بالدرجة الأولى مما يعني أهمية أن يكون التعامل بأدوات ذات بعد ثقافي وفكري أيضا.
حملت القمة نموذجا لذلك الحوار، فزعماء العالم الإسلامي الذين اجتمعوا من مذاهب إسلامية متنوعة كانوا يصنعون مشهدا يؤكدون من خلاله أن القبول والانسجام يحول ذلك التنوع إلى قوة، فقط على دول العالم الإسلامي أن تدرك أن من بينها من أخذ يخسر العالم بسبب سياساته العدائية فاتجه ليحمل الطائفية سلاحا أخيرا لمواجهة خاسرة، سوف تزداد خسارتها إذا ما استطاع العالم الإسلامي أن يطمس هذا الداء، حينها سيتحول من يستخدمونه إلى غرباء عن عالمهم الإسلامي بأكمله.