يشعر بعضنا أن الزمن الشحيح كلما شطّ بنا توارت وغربت فيه أهازيج الفرح، وتلظت تباريح الوجع المهيض، وأرسل المدى القاحل عواصفه ليهصر أشلاء ليالينا العذبة التي كانت طفرات عارمة من صبوات الرضا الدفين، وفيوضات الدفء المجعد بالضحى الممراح الذي يكسو مداخل البيوت العتيقة ويفتح الطريق للحياة المشمسة، ويغمر صدورنا التي لا تشيخ بنضح البسمات وتهجد الشفاه الراجفة بالصلوات، وهتاف المسرات على مفارق العمر "ما دامت الطيور تذكر الغناء فسوف يفتح النوافذ الربيع ليدخل البيوت عطره، هيا افتحوا القلوب هيا افتحوها للنهار البكر والغد الرضيع".

أين ذهب صباح الطفولة المترع بالأغنيات العذراء والهادر بعطر المواويل، وهدايا الحقول النشوانة حين يركضون كأجنحة الضوء الوريق ويمشطون الدروب الناعسة كسلالة العشب ووسوسات العبير؟

لماذا تختبئ الأجساد في ليلة العيد تحت مقصلة الوجوم وتستسلم لمطرقة الهموم وعجلات الضيق والكدر وسأم الدهر؟

هل أدرك هؤلاء أن قاطرة الزمان تقضم أرواحهم فتترنح أعمارهم وتذعن لمخالب الكهولة وجوارح الأيام، وتحتطب السنوات سياج حدائقهم حين يستسلمون لقروح العصر وغبار الحضارة، ومراسيم الخرس ورماد الانكسار، العمر أقصر من ساعة المقيل وموسم القطاف، وأنسام الليل الطروب وغلس الفجر العاري، العيد هذا المساء يعبق في المكان جاء مؤتزراً وشاحه المخملي، ومثقلاً بحرير العصور المجفلة، هو لم يتغير يأتي في موعده المزهر واللذيذ خافضاً هامته تحت هذه السماء الواسعة، ليوقظ أسراب اليمام وممرات الأحلام كعصفور يدخل من نافذة خضراء مبشراً بهطول الصباح ممتشقاً ضجة الأفراح "ومر العيد بعد العيد مغترباً على الأبواب ومسفوحاً على الطرقات، ولم تسمع خطاه البيض ولم تسمع، وفي الساحات بريق الضفة الأخرى على الأبواب، ومجمرة من التاريخ فوق توهج الأطفال، وتجهش حولي الأسوار والمذياع والأقفال".. صوت السهارى يوم مروا عليه عصرية العيد "فتنحب في دمي الأكواب وتثلج حولك النيران وساج أنت كالأكفان"، قبل أن ينطفىء العمر الجميل عليك أن تنهض محتشداً وتخلع قميص المرارة وأوجاع الروح، وتسكت نواح الريح التي تعبث في غابات الطلح كصقور جارحة، حاول أن تدفن ذاك الحزن الكامن في قاع الحوض الهاجع في صدرك، لا تحجب في هذا الليل حوريات الفرح النابت كالصفصاف على أطراف القلب، هل تبصر هذا الليل؟

إنه طلق المحيا كأنه العطر مسكوباً على دفاتر الأيام، وأنفاس البشر وحصون المدينة وهي تصغي لصوت غارق في لجة الذكرى وشرفات التاريخ يغني "ياليلة العيد آنستينا وجددت الأمل فينا".

غض الطرف عن أحزانك في هذا المساء فهذا نصر لك، واكسر قيود الحزن وحطم إناء الهم وكن مطراً من ضياء.