نجد اليوم أن كلمة "العولمة" تظهر في معظم الكتابات والمناقشات على الساحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية.. كل يحاول تعريفها حسب معتقداته أو مصالحه. المهم هنا أنها تعتبر الشيطان الأكبر للمعارضين والمنقذ للمؤيدين.. ولكن هنالك فئة تتعامل معها بحذر، أي تعترف بوجودها الذي يحمل في طياته إيجابيات كما يحمل من سلبيات، وعليه تنادي بدراسة هذه الجوانب وتحديدها ثم رسم الاستراتيجيات التي ستساعد المجتمع على الانضمام إلى بقية العالم دون امتصاص ما يهدد بقاءه كمجتمع متميز بعقيدته وثقافته وتاريخه.
العولمة ليست معجزة هبطت علينا من السماء أو لعنة أدركتنا من جهنم؛ إنها طريقة تفكير بنيت على مبادئ ومعتقدات يعود أساسها إلى تاريخ أوروبا القديم. يقول جيمز ملدوون (James Muldoon 2004) إن العولمة مفهوم أو رؤية مبنية على ما كان يؤمن به الأوروبيون أن كل البشر يجب أن يكوّنوا مجتمعاً عالمياً واحداً قائماً على معتقدات وثقافة واحدة (بالطبع معتقداتهم وثقافتهم). وعلى الرغم من اعتقادهم أنه ليس كل البشر يمكن أن يرتقوا إلى مستواهم من التحضر، رأوا أن من واجبهم كحاملي رسالة سماوية أن ينشروا هذا الفكر للإنسانية، ليس فقط من أجل نشر المسيحية بل أيضا لنشر ثقافة الحياة المدنية المتحضرة، كما يرونها. هذا بالطبع لم يمنعهم من مصادرة أموال أو ممتلكات من يريدون أن ينقذوه أو يعاقبوه! لأن أي مجتمع يرفض أو يخالف القوانين المتبعة يقابل بالعقوبات الصارمة التي يقررها الحاكم الذي يستمد سلطته من الكنيسة التي بدورها كانت تحتاج للتمويل.. هذا ما كان في العصور الوسطى، أما اليوم فيرى بعض الأوروبيين والأميركيين أن غالبية المجتمعات تستطيع أن ترتقي إلى مستواهم الحضاري.. كما يعتقدون أن المعايير الكونية للسلوك الإنساني يجب أن تطبق على كل المجتمعات.. هنا تظهر مشكلة من يضع هذه المعايير ومن يقرر استخدام العقاب على المجتمعات التي ترفض الانقياد لهم!
في العالم القديم كان رئيس الكنيسة (البابا) هو من يقرر هذا ويعطي السلطة للحاكم.. أما في يومنا هذا وبسبب اختلال ميزان القوة العالمية وظهور سياسة القطب الواحد (كما يظن البعض أنه ما زال مستمرا) الذي يفرض نظام العولمة حسب مفاهيمه وبما يخدم مصالحه؛ نرى أن رئيس الولايات المتحدة الأميركية يستطيع ذلك، والأمر لا يحتاج إلى سرد الأمثلة.
من الاختصاصيين الذين يرون خطر العولمة على الثقافات المختلفة للمجتمع العالمي، ويد ديفز (Wade Davis)، عالم في علم الإنسانية. فهو يحذر من أن اندثار الثقافات المختلفة سوف يفقر العالم، لأن كل ثقافة تحتوي على مجموعة أفكار ومعتقدات ومؤسسات (دينية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية) ظهرت كناتج للفكر الإنساني.. إنها طرق حل المشكلات والتعامل مع البيئة، واندثارها يحرم بقية الإنسانية من خبرات تسهم في التطور والنمو. وعادة ما يبدأ هذا بالاختفاء التدريجي للغة المستخدمة. فأي مجتمع يبدأ بخسارة لغته يبدأ بخسارة الطريق الذي يربطه بأصوله.. وبهذا يصبح من السهل امتصاصه وتخليه عن ثقافته وتقبل الثقافة التي تعرض أو تفرض عليه.
إن الثقافة هي ذاكرة الأمة إن محيت هذه الثقافة تصبح الأمة كرجل عجوز بلا ذاكرة، لا يعرف من أين أتى وإلى أين هو ذاهب.. قد يؤذي نفسه في أي حركة يقوم بها... هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى علينا أن ندرك أن التغير لا يعني بالضرورة خسارة الهوية لأي مجتمع، لأن المجتمعات حية دائمة التطور والنمو للتعايش مع المتغيرات التي تطرأ عليها.. وعليه يجب العمل على إيجاد السبل كي نعيش في عالم متعدد الثقافات قادر على التعايش.. أن يفيد المجتمع ويستفيد مما تقدمه الإنسانية في مجالات العلم والتكنولوجيا من أجل الارتقاء والنمو... والأهم من ذلك كله البقاء.
يقول مهاتير محمد ـ رئيس وزراء ماليزيا السابق ـ: إن الدول النامية فقدت فرصة المشاركة في عصر الصناعة، ونحن الآن في عصر المعلومات نكاد نخسر هذه الفرصة إن لم نقف قليلا وندرس الوضع ونقرر هل نريد أن نكون من الرائدين أم التابعين؟
يجب أن نعلم أنه من حقنا، في عصر العولمة أوالمعلومات كما يسميه البعض، أن نعمل من أجل مصلحة ومستقبل أمتنا. إن العولمة يمكن أن تطوع لكي تعمل من أجل مصلحتنا وليس ضدنا.. هذا إن اتخذنا الوقت للتفكير والتخطيط وعملنا جميعا على تنفيذ هذه الخطط. إنه وقت العمل وليس وقت التناحر.. يجب علينا أن نتقبل النصائح لا الأوامر من الآخرين.. أن نتحرى الصدق والحقائق.. أن نستخدم ما يسهم في إنجاز العمل وبالتالي نستغني عما يعطله.. نحن كجزء من المجتمع الدولي ندرك أهمية التربية والتعليم في كونهما من أساسيات التعامل والتنافس في عصر العولمة، لذا يجب أن نستثمرهما بدراسة ووعي في أهم موارد البلاد: الشعب.
إن كنا ما نزال نعتقد أن العولمة محصورة في الاقتصاد والتكنولوجيا والمعلومات فيجب علينا أن نعيد التفكير، فتأثير العولمة قد وصل إلى مجال التربية والتعليم، خصوصا في المجتمعات الغربية، وبما أن الإنسان يتعلم من تجارب الغير فيجب علينا أن نتدارك الأمر وندرس ونحلل هذا التأثير كي نستعد له. وفي مقالة أخرى بإذن الله سوف أتحدث عن هذا الموضوع.