تضيق بنا الحرية، نلوكها كل مرة نلتقي فيها الآخرين ونحن نبتسم لنرسل لهم رسالة تفيد بأننا منفتحون، نحب المختلفين عنا وعلى استعداد أن نعيّن منا من يختلف معنا حتى نُشعِر من يرانا بأننا متسامحون نحوهم.. تصبح الحرية "لزمة" ثقافية للمستنيرين الجدد ليبينوا أنهم متسالمون ويمثلون وعياً ما، مدمنون للحوار، يعشقونه.. لا يتخيلون أنفسهم دون حوار، فهو يحقق أرضية صلبة للنهضة وحاجة ملحة لبنية مشتركة إلى آخر هذا الكلام الجميل.. إلا أن الأمر سرعان ما ينقلب حين يُطرق موضوع حساس، يلامس خطاً أحمراً يتوهمونه، و"تابو" ورثوه حتى أصبح صنماً، فيتبدل الحال وينقلب التنويري لآخر يبدو غريباً، أقترب منه.. ألكزه بطرف أصبعي وأنا أتفحص وجهه: "أنت فلان؟ هناك أحدٌ لا أعرفه استيقظ داخلك وبدأ ينقضك"، لكنه يكمل انقلابه، يهدم كل ما كان يتفوه به، وقد ينتقل الأمر إليك.. تحاول أن ترطب الأجواء ممازحاً: "أنت حر، حتى بتبدلك السريع هذا وأنا حر بألا أوافقك" يقاطعك: "لا، لست حراً بهذا.. موافقتك بما أعتقده - أو ما يمكن أن أطلق عليها أسس - دون تفكير هي مطلق.."، أكمل عنه: "هي مطلق العبودية يا صديقي، فأي فكرة لا تكون الحرية جزءاً منها تصبح فكرة مريضة، مهما كانت براقة فهي هدامة، يستعملها المتسلطون، ويتوهم بها المنساقون"، كان يتحدث أثناء حديثي ـ كعادة حواراتنا ـ وحين سكت سمعته يقول: "أنت لا تفهم، نعم الحرية جيدة لكن دون هذه الخطوط الحمراء التي علينا ألا نتجاوزها، صحيح أن لديها القدرة على التكاثر بشكل عظيم، وكلٌ وحسب مصالحه يفسرها كما يشاء، إلا أنها خطوطنا يا رجل، هل ترضى بأن تتخلى عن خطوطك؟ سيأتي اليوم الذي تتمنى فيه خطاً ولا تجده".