ليست الديمقراطية سوى فكرة عبقرية، تحتوي في مضمونها على مجموعة من نتائج التجارب الإنسانية التاريخية المتوالية، من خلال سعي الإنسان الدائم للوصول إلى صيغة توافقية عادلة تمنحه رخاءً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، لتحقق أقصى درجة ممكنة من العدالة بين أفراد وجماعات المجتمع. وهي تلك التجارب التي عاشها في فترات زمنية مختلفة من تاريخه الإنساني، وشكلت في نهايتها مجموعة الأسس التي قررها الإنسان نفسه في كثير من الأحيان، أو فرضتها بعض الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وقد توصف الديمقراطية في بعض أحوالها في نطاق مفهوم محصور ضيق، على أنها نظام الحكم الذي تعتمده الدولة ويرتضيه مجتمعها ويشكل ثقافته الخاصة. ويراها البعض على أنها حكم الشعب لنفسه. وشخصياً أختلف مع القائلين بنشأة النظام الديمقراطي كمفهوم وفلسفة في أوروبا، وأرى أن الديمقراطية قد طُبق جزء كبير من مفهومها وقوانينها الأساسية، في العصر الأول من صدر الإسلام، إذ كان لاجتماع (السقيفة) في المدينة المنورة (يثرب) الأثر الأكبر في تأكيد شكل النظام السياسي القادم للمجتمع العربي الإسلامي في ذلك الوقت. وهي التي اعتمدت فلسفة الشورى (تعدد الرأي)، وتغليب الاتفاق التوافقي الجماعي على الرأي الفردي. قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم). وقد تم تطبيق تلك المفاهيم فعلياً على يد الخلفاء الأربعة، وتجلت فلسفة تلك المفاهيم كثيراً في عهد الخليفة الثاني (عمر بن الخطاب)، ثم تأكد في خلافة الإمام (علي بن أبي طالب)، وقد كانت لنشأة المفاهيم الديمقراطية في العهود السابقة عند قدماء اليونانيين جذور لا يمكن إغفالها بأي حال، ومصادرة كل ذلك ونسبته جملة وتفصيلاً إلى العهود الأوروبية الحديثة، هو إجحاف تاريخي لست أجد له مسوغاً يمكن على ضوئه تأصيل نسب الفكرة الديمقراطـية بكاملـها إلى عصر بعينه. ولكن يمكن أن نقول إن بعث فلسفة الفكرة الديمقراطية قام فيما بعد في القارة الأوروبية. هكذا يمكن لنا قبول مقولة نشأتها الثالثة بالتسميات الجديدة في أوروبا.

ويُعد الإسلام من أكثر الأديان السماوية التي حملت مفاهيمه الكثير من الأسس الاجتماعية التربوية التي شكلت أسس الديمقراطية وروحها، كالعدل والمساواة ونبذ التفرقة العنصرية. لكن ما الذي جعل الفكرة والنظام الديمقراطي نظاماً غير مُرحب به في أوساط المجتمعات العربية؟ باعتقادي أن مأزق العقلية العربية الإسلامية يكمن في خلطها بين مفهومي "الحرية" من جهة، و"الحريات" من جهة أخرى، وهو مأزق ثبت تواطؤه مع الذهنية المتعالية على مفهوم الأسس والثوابت التي جاءت بين طيات الإسـلام. ونـتج عن ذلك الاصطدام بمعضلة ربط مفهومي (الشرع والتشريع) بالوحي السماوي بكليته مباشرة! وهذا في رأيي خطأ فادح أدى إلى تصادم فكري مباشر لم نكن في حاجة إليه، لأن وضع التشريع تُرك أكثره إلى الرأي والمشورة والاتفاق، ولم يكن في أصله مرتبطاً إلا بالأسس الرئيسة التي جاء بها القرآن الكريم، مثل العدل والمساواة وتطبيقاتها.

وفي العصر الحديث استمرت معضلة تبيان الفروقات بين كثير من الأمور التي اختلط على الناس فهمها، ومن هنا جاء معظم الرفض شبه الجماعي للفكرة الديمقراطية وفلسفتها في المجتمعات العربية، وبارك تلك النتيجة المخيبة هيمنة الفكر الأحـادي الذي غيب العقل ومـنح الأطـروحات الإلزامـية المـساحة الأكـبر للحركة، وهذا منـطق عليه الكثـير من المآخذ. فالقول بتعارض الديمقراطية مع تشريع التحريم للخمر والقمار والزنا وغيرها مثلا، ما هو إلا تفريغ للمصطلح، وخروج به عن جادة الطريق السليمة للبحث والتقصي، من المفـهوم الكلي إلى المـفهوم الجـزئي. وهو خلط واضح يقع فيه بعض الباحثين؛ إذ إن ذلك هو نـفس الخطأ المنـطقي الذي ينتج عن الخلط بين مفـهوم فكرة الديمقراطية، وبـين أسس الأخلاقـيات الاجتـماعية التي تُـعد جزءاً من التنـظيم الديمـقراطي.

وإذا أردنا بالفعل مجاراة المتغيرات الدائمة بين العصور، وتطبيق مبادئ العدل والمساواة بما تحتويه من الزخم الانساني العظيم، فما علينا سوى التماهي مع كل الأطروحات الفكرية والفلسفية التي تنطلق منها تلك المبادئ الأخلاقية الرئيسية الآنفة الذكـر، مستـغلين الدعم الديني الهائل لها وتأكيده عليها بالدرجة الأولى. فالديمقراطية لا تكاد تخرج عن هذين المبدأين، بل إنها لا تخرج عنهما أساساً. فلماذا تأخر العرب إذن على هذا الصعيد؟

لعلنا هنا نقبض على بعض الكيفية التي ـ على ضوء مفاهيمها ـ يجب أن تُؤسس آليات الأنظمة، وطريقتها في تناولها بما يكفل تطبيقها بشكل فاعل، لتكون بذلك حارساً أميناً عليها.