ينسى كلّ شيء إلا معاناة أمه، ويتجاوز عن كل خطيئة في حقه إلا أن تكون الخطيئة قد جرحت مشاعر حبه الذي لا يستحق أن يُجرح!

ليس وحده في هذا المجتمع، لكنّه أنموذج لكثيرين يشبهونه.. فهو يحبّ بصدق، ويبغض من أجل الحق، لا يستجدي الشكر من أحد، كي يُقدّم العون والمساعدة، ولا ينتظر السؤال، كي يُلتفت إليه، ولا يبحث عن الرضا عنه، كي يُدخِل جنته وفردوسه من أراد ويَحشر في ناره من أراد!

هكذا عرفته وعرفه كثيرون، ليس واحداً في هذا المجتمع، بل قبيلة في مجتمع يحبّ لأبسط شيء، ولا يغضب إلا حين يكون الأمر أكبر من صبره واحتماله.

لديه حب كبير وولعٌ شديد بخدمة الآخرين، لا ينتظر أن تأخذ عليه، لتتقبل ما يُقدّم لك من مساعدته أو يعرض عليك من خدمات، لكنه يسعد إن اقترب منك أكثر، وتعرف عليك، فخدمته لك شرف (كما يعتقد)!

يتفانى في تذليل صعوبات الحياة أمام من عرف ومن لم يعرف، يصدق معك وإن كان صدقه قاسياً عليك في بعض المواقف والآراء، لكنّه محب لا يفرط فيك ولا ييأس منك، ولو كان خطؤك جريمة كبرى لاكتفى بأن يتركك لنفسك ويذهب بعيداً عنك، حتى تعود إلى رشدك!

ليس ملاكاً، لكنه إنسان يلبس ثوب الحب، ويملك صفات نادرة لا يملكها إلا أشباهه.. هو باختصار شديد: "مواطن صالح" يُحبّ وطنه، ويتفانى في خدمته!

لم يسبق لي أن رأيته حانقاً إلى درجة أن يرفع يديه داعياً على من حرم أمه الشفاء كما يقول، وسلب منها حقها في سفر طبي إلى مدينة الرياض، حاولت أن ألطف أجواءه، وأحدّ من غضبه الذي لا يأتي إلا في حالات نادرة، أعلم جيداً أنه لم يستطع مقاومة نفسه الغاضبة، فلم يكظم غيظه تجاه من وجه عليه دعاءه!

كنت أعتقد وأنا أتحاور معه أن المستشفيات الكبرى في العاصمة لم تكن مستعدة لاستقبال أمه، أو أن مستشفى مدينته المركزي ماطل في إخراج تقارير والدته الطبية، وأهدر عليه فرصة حجز مسبق في مشفى متقدم بالعاصمة أو موعد طبي مع طبيب زائر أو مختص لا يتحقّق لقاؤه إلا في النادر!

كان بعد كل دعوة تنطلق من بين فكّيه وتصل إلى أذنيّ يجيب على أسئلتي باختصار شديد، لم أفهم بعدُ سبب دعواته الحادة تلك بشكل كامل، لكنّني كنتُ مؤمناً بأنّ دعاءه لم يأت من فراغ، فحرقته تلك لا تزوره إلا في الملمات والمواقف العسيرة!

حاولت أن أفهم منه الحكاية بتفصيلاتها الدقيقة، كنت ألح عليه في السؤال، ويشغله التفكير عن الإجابة، لكنه أخذ يُسرب إلي بعض المعلومات التي بدأت أفهمها بشكل جيد، كان حديثه مفهوماً بالنسبة لي، لكنّني بعد كل إجابة كنت ألومه على تقصيره، فقد كنت أظن ـ وبعض الظن إثم ـ أنه يتحمل جزءاً كبيراً من المشكلة!

احتمل تخطئتي له أكثر من مرة، لكنه قطعَ حديثه معي باتصال عاجل أجراه بأخيه المسافر برّاً من أبها إلى الرياض، كانت الساعة وقتها تشير إلى الثانية عشرة ليلاً، كنت أقرأ في ملامحه الغضب، وفي عينيه كنت أشعر بحزن لا يقاوم.. أغلق هاتفه، وسرعان ما انفجر في وجهي بشكل لم أعهده من قبل، قال لي: ألا تعلم أنني ظللت أبحث عن مقعد لأمي المريضة على متن الخطوط السعودية من أبها إلى الرياض منذ شهرين؟!

وأردف يقول: لم يكن سفرها إلى هناك من أجل السياحة، أريدها أن تسافر إلى هناك، كي تتابع جلستها الطبية بعد غد في المستشفى التخصصي، لكنني لم أجد، برغم أنها مريضة ومضطرة للسفر!

هل يُقبل ألا يُوجد مقعد لمريض على طائرة الخطوط السعودية؟!

قلت له: أنت تعلم أنّنا في موسم صيف، ومدينة أبها مزدحمة بالقادمين ومزدحمة بالمغادرين، فلماذا لم تبحث لها عن رحلة عن طريق جازان مثلاً؟!

قال لي: لم تفلح كلّ محاولاتي.. فقد باءت كلّ الأماني التي كنت أحملها بالفشل! أنت لا تعلم أن معاناة أمّي جعلتني أتعرّف أكثر على مطارات كثيرة في بلدي لم أكن أعرفها من قبل، خطبت ودّ مطارات نجران، وبيشة، وجازان، لكنّ نصيبي كان متعسراً!

تخيّل: لم أجد مقعداً لأمي المريضة منذ شهرين.. لقد طرقت من أجلها كل الأبواب، لكنّ طرقاتي تلك لم تُجْدِ.. وما زلت تلومني!

كنت أفكّر في كل لحظة أطرق فيها باب مطار من المطارات السابقة بمعاناة أمّي التي تسافر ألف كيلومتر برّاً، كنت ألتمس العذر في كلّ شيء إلا أنني لم أفكر أن ألتمس العذر لمن لم يستجب وهو قادر لنداء أمي المريضة.. تخيلت أن مكان أمّي لاعبا مشهورا، أو فنانا كبيرا، أو رجل مجتمع بارزا!

كنت أتساءل ببراءة شديدة: لماذا المعاناة لا تكفّ عن مطاردة البسطاء، ومعاندتهم، ألأنّ ذنبهم أنّهم لم يكونوا يوما ما مشهورين؟!