بعض الكتب تحدِث عند قارئها خضّة جماليّة ورجّة إبداعية، لما تنطوي عليه من خصوبة وتناسل. تفتحُ حقلاً غير منظور قوامُهُ الخيالُ الحرّ الذي ينطلق من بذرةٍ يعالج تكوينها ويتّجه بها إلى مسارات أشبه ما تكون بإعادة تخليق؛ تنصدع به هذه البذرة وتتفجّر شراراتٌ تذهل ولها فعلُ الانخطاف تشعرُ به، ولا تتدبّر تبريره. ثمّة عالمٌ جديدٌ يدلفُ إليه الخيال ويعظم جُرْمُهُ وتأثيره، عندما ترفدُهُ نظرةٌ تأمّليّة ثاقبة، وفكرةٌ تزحزح حجابَ العين وتنفذ من غشاء العابر واللحظي. تتفتّتْ القشرة الخارجيّة، وتندفع الظلمة بعتمتها الجارحة تسطو بعذاب السؤال وتنكّل بالبديهة.

الشاعرة الكويتية دلال جازي في كتابها "تشريح الأرنب الأبيض" (مسعى للنشر والتوزيع، الكويت ـ 2011) تصدر عن بريّة المخيّلة النافرة؛ تضرب في فضاءٍ مفتوح تجترح فيه حيواتٍ وكائناتٍ وأشياء، تصنعُ اللامعقول وغير المتوقع فيها ومنها، وفي الآونةِ نفسِها تنهض الطاقة التأمليّة باستنبات المفارقة وبزوغ الأسئلة الحرجة. يبرز المخبوءُ ويظهر إلى السطح لُغمُ الوجود بصاعق الكلمة التفجيري؛ الكائن في حيرتِه وفي ذبذبتِه قبالة جبروت المجهول وسلطة المطلق، يسعى إلى الزحزحةِ وإسباغِ المفهوميّة على ما يراوغ ويتفلّت، بما يعني استيعاب الحصار الكونيّ وإدراك المحدوديّة بالتوغل خلف الظاهر واستكناه أسرار الظلال.

تنبش الشاعرة وتسرد مأزق الحياة على نحوٍ مشهديّ مأهولٍ بالحركة المشغولة بغير مجانيّة يباطنُها القلقُ الكياني وعصفُ الحيرة. يخرجُ بخارُ العدم، يهلّ نزيزٌ له ذاكرةٌ وجرحٌ لا يلأمُهُ نسيان. في نص "اللعبة"؛ لعبة الحياة والتوقّف إزاءها بلا مخرج ولا طائل. لعبةٌ عبثيّة تمسك بالخناق ولا تؤذن بنهاية. بندولُ الكائنِ يتأرجحُ صعودا وهبوطا؛ لا إلى سماء تهدهد ولا إلى أرض تحضن. الأرجوحة في طلوعٍ ونزول والكائن يتذبذبُ معها. يتفصّد من الداخل، يمور ويتحوّل وتكتسي سحنتُهُ بالرعب الذي يطفر من مسامات الجسد ويزحمُ الهواء؛ فيعدي من حوله، تتولاهم حالةُ الرعب من سكونٍ ناغلٍ يرجفُ ويهتزُّ إلى ما لا نهاية في صورةِ وحشٍ من حديدٍ ولحم (يغادرون حديقتك/ واحداً بعد آخر/ ورويداً... تغرب الشمس/ لكنك لا تقف./ برفضِك النزولَ إلى الأرض، وبعدم تمكّنك من الصعود إلى السماء/ تتحوّل إلى وحشٍ من لحمٍ وحديد، يتابع اهتزازاته الغامضة./ الأشجار التي تواجهُك، تفرّ مذعورةً تاركةً ورقة وحيدة جافّة على الأرض/ والقططُ تموء ملتصقةً بالجدران الداخليّة للسور/ وأنت تسأل نفسك: هل أثيرُ الرعبَ إلى هذا الحد؟).

الوعيُ بالمأزق وتجرّعه حيرةً وعجزاً يفدحُ به، يقدحُ في الكائن شعلةَ المقاومة ومحاولةَ إعادة التشكيل بفضِّ خيوطِ الصورةِ المعطاة والانفلات من الهيكل الجاهز الذي يفرضُهُ قانونُ الخارج. كما يتجلّى ذلك في نص "الكمثرى". تلك الاستعارة التي تلخّص نزوعاً إلى الفرادة ينجو من التشابه ويؤكّد الانفكاك من أسرِ الانشداد إلى جاذبيّة تشكّل ما تريد على هواها (الكمثرى كانت/ تفاحةً مستديرة/ لم تستجب للجاذبيّة ولا لأفكار نيوتن التي كان يحدّث بها نفسه). الاستعصاء على القانون والتشبّث بنداء الحريّة يخلّف أثرا ويصنعُ ندبة؛ ناتجَ مناهضةِ قبضةِ يدِ الجاذبيّة القويّة (عندما آكلُ الكمثرى/ أتذكّر هذا كلَّهُ وأتلذّذ به/ خيبةَ الجاذبيّة،/ كبرياءَ الثمرة التي لا تهمّها قوانينَ العالم/ ورأسَ نيوتن/ الخالي من الكدمات).

نازِعُ الحريّة هو إبرةُ الميزان، الكفّة التي تحرّر من ثقل القيد ومصادرةِ الوجود (كلّ مرّة/ أرسمُ فيها دائرةً بالطباشير/ يفرُّ عصفور). يحضر هذا الانشغال وهذا الهاجس في أكثر من نصّ، منها "وجود" وهو الأصفى والأبلغ دلالةً، حيث قبضةُ الطين شأنها شأن الكمثرى تختار مصيرَها المراوح بين القساوة واللين؛ بين الرفض والإذعان. الاستقطاب بمعرفة خارجٍ ضاغط وداخلٍ ينوي أن يختطّ ما هو مفارق مع وعيٍّ بالقدرة حيالَ ما هو متعالٍ؛ المصير الذي تناكِفُهُ قبضةُ الطين بشوطِ الحريّة المقدودِ من شغفٍ ومن سؤالٍ حائر يتردّد دون هوادةٍ رغم الارتطام بالسقف (يمضي وقتاً طويلاً في التفكير/ إلى أن يجفّ/ على هيئة قدمين ترتفع إحداهما في وضعيّة هرب/ وعينٍ واحدةٍ مفتوحةٍ على الدوام/ تتطلّع إلى السماء/ بنظرةٍ غير مفهومة).

"تشريح الأرنب الأبيض" مكتنزٌ بتيمات تعالج مسألة الوجود والكيان الناقص المثغور بالألم والزمن والمسوّر بالموت، وكلّها تأتي في سياقٍ شعريّ منساب، حيث الفكرةُ بجناحين من الدهشة والرؤية النافذة (فقدْنا أطرافَنا في الفكرة/ نفذْنا من مسام الكافِ والنون، وما كنّا، ثقبْنا رئةَ الماء/ انتفضْنا، موجةً موجة، ثمّ عُدْنا/ لقعرِ الكأس).