قبل أسابيع، فقد الوسط الثقافي العسيري، واحدا من أهم رواده الذين كان لهم دور واضح في تصدير ثقافة المكان، وهو الأستاذ علي حسن الأسمري ـ رحمه الله ـ ذلك العصامي الحقيقي، الذي تشكلت ثقافته من قراءاته المبكرة المدفوعة بالشغف وحسب، مما يعني أنه مخلص للثقافة والمعرفة إخلاصا مجردا من أن يكونا سلّمين يصعد بهما نحو الوظائف، أو الحضور الإعلامي.

ويبدو أنه كان مطلعا على المعارك الأدبية المبكرة بين أدباء مصر، أو الحجاز، ولذا تتسم لغته النقدية بالحدة والمباشرة، لكن الموضوعية غالبة عليها، مما يجعل حدته سائغة، بل ومحببة حتى إلى الذين تتجه إليهم.

وقبل أن يعرف جلُّ الأهلين في عسير الثقافة، كان هو وأخوه عبدالله يحرران "رسالة أبها"، بمجلة المنهل بين عامي: 1386، و1388، وفي ذلك وعي مبكر بأهمية إيصال صوت المكان، على الرغم من قلة الوسائط، وصعوبة المتاح منها.

ويعد كتابه: "هموم ثقافيّة عن المسيرة الأدبية في عسير" مصدرا مهما من مصادر تاريخ الحركة الأدبية والثقافية في عسير، ولولا مبادرة صديقه الأديب أحمد عسيري، لما رأى هذا الكتاب النور، لكن أحمد عسيري ـ كما أعلم ـ كان قد عرض الكتاب على الأمير خالد الفيصل، الذي بادر إلى طباعته على نفقته.

وفي هذا الكتاب، لم يكتف الأسمري بعرض آرائه الاحتجاجية على سلوكيات المثقفين، وواقع المؤسسات الثقافية، وإنما قدم رصدا تاريخيا دقيقا للفعل الثقافي، معتمدا على معرفته الشخصية بوصفه مشاركا فيه، وحريصا على جودته، وهذا يجعل من الكتاب كله شهادة مطولة على مرحلة مهمة من مراحل حياة الثقافة.

والأسمري أنموذج حقيقي للذين أدركتهم حرفة الأدب، فقد كان شظف العيش، يلازمه عبر مراحل حياته كلها، حتى إنه عرض مكتبته الثرية للبيع قبل وفاته بستة أشهر، مما يشي بأنه وصل إلى حالة من اليأس من تحسن الأحوال، وإلا فكيف لأديبٍ شغوف بالمعرفة أن يتخلى عن مكتبته التي كان جمعُها همَّه الأكبر عبر خمسين عاما؟! وهي التي قال عنها في حوار أُجري معه قبيل وفاته: "ولو أعطي نفسي ـ كما أعطى العقاد نفسه ـ للقراءة ثماني ساعات يوميا، فإن الكتب التي لدي تغطي مدة عشر سنوات، لا أرفع رأسي، ولا أستزيد ورقة من خارج مكتبتي".

قبل عشر سنوات، تقدّم بموضوع ممتاز، كتبه بخطه الأجمل، طالباً نشره في دورية "بيادر"، وكنت حينها مسؤولا عن تحريرها، وبعد بضعة أسابيع، اتصل بي غاضباً يقول: "اش بكم ما نشرتوا موضوعي، وإلا لأني تقليدي وما أعجبكم؟"، فقلت له ببساطة: "ياعم علي.. موضوعك مُدْرج للنشر، لكن العدد لما يصدر بعد.."، فما كان منه إلا أن تراجع عن غَضْبته قائلا: "اعذرني يا ولدي، لكننا نحن الشيبان حَرْقان ونستعجل".

له علينا أن نتواصل مع أسرته، علنا ننشر مؤلفاته المخطوطة التي عجز عن نشرها، وذلك أضعف الوفاء.