تعد الاستقالة إحدى الممارسات المدنية التي يقوم بها المسؤولون والتنفيذيون لإيصال رسائل عدة من خلالها، كتحمل المسؤولية أمام حدث أثار حفيظة الرأي العام، أو الهروب من المساءلة أو كحركة استباقية للإقالة أو مناورة لجذب الاهتمام والدعم، ومن ثم الوصول إلى منصب أعلى.

أيا كانت الأسباب لتقديم الاستقالة، إلا أن هناك عاملا مشتركا بينها وهو الضغط الخارجي كالفضائح الإعلامية والفساد الإداري وغيرها. استقالة المسؤولين الإرادية، وإن كانت غالبا ما تخضع لهذه الضغوط، إلا أن بعضها يعد وسيلة للضغط على التنفيذيين وصناع القرار لاتخاذ موقف من سوء خدمة أو حدث جلل وتحمل مسؤوليته، وهو كما يبدو ما قام به أحد مديري المستشفيات في شمال المملكة.

سوء الخدمات الصحية شمالا وتكرر الحوادث والأخطاء الطبية هناك ليسا جديدين، ولعلهما من مؤشرات جودة الخدمات الصحية لوزارة الصحة في المملكة كافة، ولكن لعل الجديد أن هؤلاء المديرين أحسوا بقرب التضحية بهم إداريا ككبش فداء إعلامي بعد بروز الشمال إعلاميا في عدة مناسبات صحية من عدم توافر أسرة وأخطاء طبية. هذه الاستقالة أيا كانت دوافعها وخلفياتها، سواء علمت وزارة الصحة عنها أم لم تعلم، تشير إلى الحاجة الماسة لوجود أمين مظالم للخدمات الصحية.

يعود الأصل اللاتيني لمصطلح أمين المظالم إلى مصطلح سويدي معناه "وكيل أو ممثل الشعب أو مجموعة من الشعب" وفي العصر الحديث فإن أمين المظالم غالبا ما يكون أمين مظالم برلمانيا ويقوم مكتبه بالإشراف على البرلمان ومراقبة الإدارة العامة في الحكومات.

قامت إنجلترا عام 1973 بإقرار مكتب أمين المظالم للخدمات الصحية وما زال يقوم بخدماته إلى اليوم مع أمين المظالم البرلماني، أما في عام 2002 قامت الأمم المتحدة بإنشاء مكتب أمين المظالم وتحديد مهامه والأمثلة عديدة.

أمين المظالم للخدمات الصحية هو شخص مستقل يتم تعيينه للقيام بتحقيقات مستقلة غير رسمية في الشكاوى والحوادث التي لا تتعامل معها وزارات الصحة بالشكل المطلوب، وأيضا يحقق في سوء الخدمات للمواطنين انتهاء بالشكاوى الإدارية التي يقدمها منسوبو الوزارة من أطباء وممرضين وممارسين صحيين وطواقم إدارية وغيرهم. يعمل الأمين ومكتبه بسرية لتحسين الخدمات الصحية للمواطنين بشكل جماعي وفردي ويستقي منها تقاريره الدورية التي ترفع للبرلمان أو رئيس السلطة التنفيذية التي يقوم بنشرها وهو ما يعد مصدر قوته وسلطته. هذا المكتب عادة لا يتمتع بالصلاحيات التنفيذية ما لم يتم دعمه بأنظمة ولوائح قانونية وإنما يقوم بحل مشكلات الأفراد مع وزارة الصحة بتقييم الخيارات المتاحة لهم في ظل الأدلة المتواجدة ابتداء بالتسديد والمقاربة والوساطة وانتهاء بتوجيه الفرد للقنوات القانونية المتوافرة له. أمين المظالم للخدمات الصحية يعد صمام أمان بإنذاره المبكر عن مواطن الخلل المتكررة التي يقوم برصدها عن طريق الشكاوى والبلاغات، ومن ثم تقديم الحلول لتغيير السياسات الصحية.

مهام أمين المظالم للخدمات الصحية الافتراضي تتقاطع لدينا مع مهام جهات عدة؛ كديوان المظالم وهيئة مكافحة الفساد وديوان المراقبة، ولكنها تختلف عنها في كون تحقيقاتها غير رسمية وتهدف إلى حماية حقوق المواطنين من البيروقراطية عن طريق آلية الشكاوى الفردية السرية، وحل النزاعات بأقل تكلفة وأضرار، فعلى سبيل المثال، لو أن لأمين المظالم الصحية وجودا لدينا، لأمكن مدير المستشفى المستقيل مؤخرا تقديم شكواه واعتراضه للأمين ولقام بتوفير الجهد النفسي عليه واضطراره لهذه الخطوة وقام بتوفير وقت وزارة الصحة عوضا عن الجدال الإعلامي الحاصل بينهما واستثماره في محاولة استيعاب الأسباب وراء هذا الحراك الإداري الصحي ومن ثم تصحيحه. وجود هذا الأمين كان سيسد الفوهة المتزايدة بين المواطنين ووزارة الصحة، فالتحقيقات التي يقوم بها مكتب أمين مظالم الخدمات الصحية غالبا ما تخدم المواطن والوزارة على حد سواء، فالأمين يصبح قادرا على شرح الدوافع وراء تصرف الوزارة وأيضا التوصية بتغيير أو إلغاء قرارات التنفيذيين الجائرة بوزارة الصحة.

تعد وزارات الصحة حالة خاصة عندما نتحدث عن البيروقراطية والفساد الإداري، ذلك أنها مرتبطة مباشرة بصحة المواطنين وهي أحد أهم الحقوق الأساسية التي يعد انتهاكها تقويضا للبنية المجتمعية. لا يمكن لديوان المراقبة العامة ولا لهيئة مكافحة الفساد ولا لديوان المظالم العمل بفاعلية تنعكس برضا للمواطنين عن الخدمات الصحية من دون وجود وتفعيل لأمين مظالم مستقل للخدمات الصحية. ها نحن شهدنا استقالة من لعبة شطرنج الصحة والتي تجاوزت الزمن منذ أمد طويل وقد نشهد غيرها ما لم يتم تغيير لوح اللعبة ولاعبيها.