رغم صدور اللائحة الموحدة لوحدات المراجعة الداخلية منذ أكثر من خمس سنوات تقريباً، إلا أنها لم تفعّل في العديد من الجهات الحكومية، وأقصد بعدم التفعيل هنا عدم قيام إدارات المراجعة الداخلية بمهامها المطلوبة رغم إنشائها تنظيمياً.
وترى الجهات الحكومية أن من أسباب عدم التفعيل عدم وجود كوادر بشرية مؤهلة، وعدم اعتماد وزارة المالية وظائف جديدة حسب متطلبات اللائحة الموحدة، إلا أن هذا السبب يكاد يكون مجرّد عذر لعدم التطبيق، ويبدو أن هناك مقاومة خفية لوحدات المراجعة الداخلية.
هذه المقاومة ليس الهدف منها إلغاء الرقابة والتهرّب منها، بل على العكس من ذلك كله، فكثير من الجهات الحكومية تعترف بوجود الضعف الرقابي لديها تماماً كباقي الوظائف الإدارية الأخرى مثل التخطيط والتنظيم والتوجيه، وهي أيضاً تدرك جيداً أن المراجعة الداخلية تعد من أفضل الوسائل لتفعيل العملية الرقابية ولكن ما يقلق هذه الجهات بالتحديد، هو علاقة وحدات المراجعة الداخلية بالأجهزة الرقابية الأخرى مثل ديوان المراقبة العامة، بالإضافة إلى علاقة هذه الوحدات بالأقسام والإدارات الأخرى داخل الجهة الحكومية نفسها.
فبعض المسؤولين ـ على سبيل المثال يرى ـ أن وحدة المراجعة الداخلية ما هي إلا (جاسوس) على جهته، وذلك بسبب تزويد الأجهزة الرقابية بنسخة من تقارير مهام المراجعة الداخلية، كما أن هذه الوحدات تسبب العداوة بين الموظفين في الإدارات الأخرى من خلال كشف الأخطاء ورصد المخالفات.
وأشير في هذا الصدد إلى قصة ظهرت في إحدى القنوات الفضائية، فيها يشتكي أحد مديري وحدة المراجعة الداخلية في إحدى فروع الوزارات، بأنه تم نقله تعسفياً من منطقة إلى أخرى، وذلك لأنه قام بكشف كثير من المخالفات وقضايا الفساد، ويبدو من هذه القصة أن سبب نقل هذا المدير قد يتمثل في وجود مشكلة بينه وبين مدير الفرع، لأن وحدات المراجعة الداخلية مرتبطة تنظيمياً بالإدارة الرئيسية في المركز الرئيسي للوزارة، وبالتالي فإن مدير الفرع قد ينظر إلى مدير وحدة المراجعة الداخلية بأنه مجرد (جاسوس) للوزارة، ينقل إليها الأخطاء سواء كانت صغيرة أو كبيرة، مما يؤثر بالسلب على سمعة الفرع.
مما سبق، نستنتج أن من أهم العوامل التي أدت إلى وجود مقاومة للمراجعة الداخلية، النظرة الخاطئة إلى دور المراجع الداخلي باعتباره "جاسوسا" أو أن مهمته مجرّد تصيد للأخطاء، كذلك هناك عوامل أخرى تتعلق بعدم وضوح المفهوم المهني للمراجعة بشكل عام وعلاقتها بمكافحة الفساد، بالإضافة إلى وجود قصور في الممارسة المهنية لها.
وعلى أي حال، فإنه من المهم تسليط الضوء على مسألة العداء والمقاومة لوحدة المراجعة الداخلية كعامل مؤثر بشكل سلبي على أداء أعمالها، فمن الضروري فهم طبيعة العلاقة بينها وبين الجهات الأخرى مثل ديوان المراقبة والإدارات التي تقوم بمراجعتها، وذلك للتقليل من سلبيات هذه المقاومة التي لا توجد في الجهات الحكومية فحسب، بل أيضاً في الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص، حتى إن بعض الشركات لجأت إلى شركات أخرى متخصصة في المراجعة الداخلية بسبب هذه المشكلة، وبعضها لجأ إلى تشكيل لجان تنسيقية تسمى "لجان المراجعة".
فإذا كانت بعض الشركات استطاعت تقليل العداوة ضد إدارات المراجعة الداخلية ومنحها استقلالية أكثر، فكيف يمكن الاستفادة من هذه التجربة في الجهات الحكومية؟.
في البداية لا بد من تصحيح المفهوم الخاطئ لعلاقة وحدات المراجعة الداخلية بديوان المراقبة العامة، فليس صحيحاً أن أي تقرير يصدر من المراجعة الداخلية يجب تزويد الديوان بنسخة منه في جميع الأحوال، وإنما يطلّع الديوان على التقارير عند تقييم أنظمة الرقابة الداخلية، والتي تعتبر المراجعة الداخلية جزءاً منها وهذا ما تضمنته المادة (15) من اللائحة الموحدة والتي تنص على أنه : " يجب على مدير الوحدة وموظفيها التعاون وبشكل منتظم مع المراجع الخارجي للجهة الحكومية... وتمكينه من الاطلاع على جميع التقارير والبيانات اللازمة لأداء عمله.."، وبالتالي فإن الديوان لا يطلع على التقارير إلا عند القيام بمهامه، وفي جزئية معينة، والهدف من الاطلاع على التقارير ليس من أجل كشف المخالفات التي تحتويه، وإنما التأكد من سلامة وقوة نظام الرقابة الداخلي، وبمعنى أوضح التأكد من وجود رقابة فعّالة في الجهة الحكومية، والتي لها علاقة بمباشرة بأعمال الديوان وخاصةً فيما يتعلق بالمخاطر الرقابية مثل فحص أنشطة رقابية مماثلة، أو عمليات، أو أرصدة لم تقم المراجعة الداخلية بفحصها فعلا، كذلك يقوم المراجع الداخلي بمساعدة الديوان في الحصول على فهم للرقابة الداخلية أو في القيام باختبارات رقابية أو اختبارات تحقق، بما يتفق مع معايير المراجعة الحكومية الخاصة بمسؤوليات الديوان.
أما بالنسبة لعلاقة وحدة المراجعة الداخلية بالإدارات والأقسام التي تقوم بمراجعتها في الجهة الحكومية نفسها وخاصةً في فروع المناطق، فإن مضمون المادة الثانية من اللائحة يشير إلى ارتباط هذه الوحدات بإدارة المراجعة الداخلية في المركز الرئيس، وبالتالي هي غير تابعة تنظيمياً لمدير الفرع، حيث تنص المادة (2) من اللائحة على أنه :" تتولى كل جهة حكومية إنشاء وحدة للمراجعة الداخلية في المقر الرئيسي يرتبط مديرها بالمسؤول الأول في الجهة، أما الفروع فتنشئ – عند الحاجة- بقرار من المسؤول الأول في الجهة"، وعلى ضوء ذلك أرى من الأفضل أن يكون ارتباط مدير وحدة المراجعة الداخلية بمدير الفرع مباشرةً بدلاً من ارتباطها بإدارة المركز الرئيس والتي ينحصر دورها في هذه الحالة على الإشراف الفني والرقابة على الفروع، والتأكد من قيام وحدة المراجعة بها بالمهام المطلوبة منها، وبهذا الوضع التنظيمي يقلل بشكل كبير من مقاومة المراجعة من قبل الفروع وتعطي استقلالية أكثر للوحدة، فضلاً عن كونها وسيلة رقابية فعالة بيد مدير الفرع.