حتى لو اعترفت بسطوة الجذور، وكتبت اليوم تحت تأثير التراب الذي كان تكوين عظامي ولحمي، إلا أنني سأختار (سهرة بسطة القابل) الأبهاوية درة فوق كل احتفالاتنا بعيد الفطر السعيد. وكل أسفي أنني خذلت نفسي حين تكاسلت عن تلبية الدعوة الكريمة، كي أحضر نسخة مستعادة من ليالي هذه القرى، التي كونت أبها قبل نصف قرن.
وكم أشعر في تسجيل تلك الليلة الإلكتروني بحجم الفارق الذي كان مع مسيرة التحديث. ولمن لا يعرف (بسطة القابل)، فهي آخر القرى التي تماسكت من الحجر والطين، لتبقى نبتة غريبة في قلب هذه المدينة. ويحزنني أنها لم تجد من أهلها القدامى على قيد الحياة غير خمسة أشخاص، لم يحضر منهم غير اثنين لاستلام هدية الوفاء، بأيد مرتعشة تنبض فيها دماء الحياة تحت جلد شبه ميت. لست من أبها، جذرا، ولست أبهاويا، ولكنني مسكون بكل شيء من بقايا هذه المدينة. وحين شاهدت مقاطع (السمرة) الأبهاوية في (بسطة القابل) تألمت، لأن مسيرة التحديث الحتمية تركت هذه البسطة حين سقطت سهوا، مثلما سقطت بالعمد كل بسمة شفاة ونسمة حياة من تاريخ الموروث الهائل بهذه المدينة. حتى البقايا من تراثنا باتت هجينا مزيفا، ومن أراد أن يلقي عليه تحية الوداع لما كان عليه قبل نصف قرن فأمامه بسطة القابل بضغطة إلكترونية. كيف ولدت هذه المدينة الفاتنة من رحم هذه القرى الخمس المتناثرة؟ والجواب أن في ذلك تزوير للسؤال حين يكون: كيف ماتت هذه الأم تبعا لمخاض الولادة، فلم يبق من الأطلال غير (بسطة القابل) أمام (جسر الدولة) على وادي أبها الذي يبقى اليوم أقدم جسر في تاريخ كل الجزيرة.
وبين بيوت الحجر والطين، وأمام نوافذ وأبواب العرعر والطلح استعادت (بسطة القابل) ليلة شاردة من آلاف ليال لن تعود. ليلة من ليالي (الهود) و(الختان) و(الدخلة). حاولت أن تسافر نصف قرن للوراء: إلى صوت (ابن عشقة) وآهات (ام ثوابي)، ولكن في عيد صناعي لا يشبه أعياد بسطة القابل المهاجرة.