من النادر أن يعيش الإنسان حياة البساطة وينعم بالهدوء، ويعيش ولو لوقت يسير معاناة 500 أسرة احتجزتهم مياه السيول المنقولة والجارية من أودية رديفة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، في أودية راحة وشيبة ومركز "سريان" النائي جداً من محافظة سراة عبيدة.

على سفح جبل وفي ضيافة رئيس مركز "سريان" علي محمد أبو رقطة، كانت "الوطن" ترصد الشلل التام الذي أصاب الحياة في تلك القرية، والقرى المعزولة في أودية راحة وشيبة، يشاركنا عضو اللجنة مدير شعبة التخطيط والطوارئ في إدارة الدفاع المدني بعسير الرائد عبد السلام محمد أبو سبل، ومندوبا المالية أحمد سعيد القحطاني ومفرح عسيري، ومدير طب الطوارئ في صحة عسير يحيى آل مفرح، وآخرون.

استعدادات

سخرت إدارة الدفاع المدني في محافظة سراة عبيدة إمكاناتها لخدمة اللجنة، ووجد مدير الفرع الرائد سعيد آل محسنة بشكل يومي في طفة درامة "المطل" يساعده فريق متدرب على الإنقاذ والإغاثة، للدعم والمساندة وتحميل المواد الإغاثية المقدمة من وزارة المالية، بالتعاون مع عمال استأجرتهم الأخيرة. وهناك وجود كثير من الشاحنات المحملة بالأرزاق.

تجريف

ونقلت طائرة الأمن في رحلات مكوكية خلال الأسبوع قبل الماضي، وقبله مواد تموينية عاجلة مقدمة من وزارة المالية لـ450 أسرة متضررة في بعض قرى وادي "راحة"، و50 أسرة أخرى لأهالي قرى العطف. ورافقت "الوطن" قائد الطائرة الرائد طيار يوسف القرني، وآخرين في رحلة تستغرق من 10 دقائق إلى 15 دقيقة، بحسب الظروف المناخية وسرعة الرياح. من فوق جبال تهامة، تبدو أوديتها السحيقة، مغمورة بمياه الأمطار المتدفقة، حاملة معها الصخور. ورصدت عدسة "الوطن" حجم الضرر الذي لحق بطريقين يجري تنفيذهما حالياً أحدهما يصل عمس بالفرشة، والآخر بين الفرشة ووادي راحة اللذين تم تجريف أجزاء منهما بالكامل، وهي إشارة جيدة لإعادة دراسة مسار الطريقين، لا سيما أنهما يقعان في بطون الأودية وبالقرب من مسارت السيول التي يضطر الأهالي للشرب منها.

العيون المترقبة

سيارات شحن كبيرة محملة بالسكر، والرز، والشاي، والزيت، والدقيق، والحليب المجفف، تقف في مهبط الطائرة العمودية. عمال يحملون ما يكفي في المتوسط لـ 50 أسرة، وتلك حمولة الطائرة التي هبطت بسلام بالقرب من مركز وجود المتضررين. شدة سرعة المراوح تجبر المستقبلين من الأهالي لتغطية وجوهم خوفاً، من الأتربة المتصاعدة. ويتكرر السيناريو. لحظات ويفتح الباب الرئيس. أطفال وشباب من مناطق التجمع، يقتربون من الطائرة، ويتم إنزال المواد التموينية. وفي قراءة أولية لتلك الوجوه السمراء والعيون المترقبة، تلحظ مدى الفاقة إلى تلك المعونة العاجلة، فهم هناك معزولون عن العالم بسبب السيول. يتم التحميل في سيارة تمهيدا لإيصالها إلى المستحقين بعد أن يوثق مندوبو الإمارة والمالية، والدفاع المدني وثائقهم. وهناك سجلات وأوراق وبطاقات عائلية، تستوجب اكتمال مسوغاتها قبل التسليم.

الغياب القسري

لعل لدى معلمي ومعلمات أودية راحة وشيبة في تهامة قحطان، ما يبرر غيابهم. فالطرق المؤدية من مركز الفرشة حيث آخر طريق معبد، إلى مدارسهم لا تزال غير آمنة بفعل مياه السيول، وصعوبة التنقل في الأيام العادية إلا بسيارات دفع رباعي. المعلمات الثماني اللاتي يعملن في مدرسة البنات، تدفع كل واحدة منهن لسائق السيارة 500 ريال شهرياً، إذ يحضرهن من أبها وخميس مشيط وسراة عبيدة صباح كل يوم. بعضهن تغادر منزلها في ساعات الفجر الأولى، وتقطع المسافة في أربع ساعات، ورحلة العودة تتم بالطريقة ذاتها. وبحسبة بسيطة يتضح أنهن يقضين ربع اليوم في رحلة الذهاب والإياب، وهذا فيه جهد ومشقة، إلا أن طلاب وطالبات تلك المنطقة لم يتلقوا خلال ثلاثة أسابيع دروسهم.

تكليف

إلى ذلك، كلف مدير التربية والتعليم في محافظة سراة عبيدة يحيى آل فايع مدير العلاقات والإعلام التربوي محمد آل مالح بمرافقة اللجنة ورفع تقرير عاجل عن وضع سير العمل والدراسة في 13 مدرسة تقع على ضفاف وادي راحة في المحافظة، منها 6 مدارس للبنات يدرس بها 137 طالبة ويقوم على تعليمهن 68 معلمة، و7 مدارس للبنين منها متوسطتان، يدرس بها 290 طالباً، ويقوم على تعليمهم 116معلماً. وفي قراءة أولية يتضح مدى اهتمام الدولة بتلك المنطقة، فنجد أن معدل كل ثلاثة طلاب يُعنى بهم تعليمياً معلم واحد.

لجنة الطوارئ

وفي المقابل، تأكد لمندوب مدير التربية والتعليم أن المعلمين والمعلمات، لم يتمكنوا من القيام بعملهم نتيجة هطول الأمطار المستمر، واكبه جريان السيول المنقولة من 20 وادياً مقبلة من الداخل في محافظتي ظهران الجنوب وسراة عبيدة وأخرى من الخارج من محافظتي صعدة وباقم اليمنيتين.

وأبلغ "الوطن" آل مالح من موقع قريب من ابتدائية ومتوسطة النواس بن سمعان في مركز "سريان" أن إدارتهم شكلت لجنة عاجلة سميت لجنة الطوارئ للتواصل مع مديري ومديرات تلك المدارس حيال استئناف الدراسة، متى ما زال الخطر، الذي لا يزال قائماً حتى إعداد هذا التقرير، مؤكداً أن سلامة الطلاب والمعلمين فوق كل اعتبار، مشيراً إلى أن الثقة في جديتهم قائمة وسيعملون على تعويض الطلاب والطالبات على ما فاتهم من المقرر.

الشباك والجوالات

قد يتوفر فوق جبل هناك، أو منعطف واد بعض الإرسال لأبراج شركات الاتصالات، لكن لمركز سريان حكاية أخرى إذ لا يوجد مكان يتوفر فيه الاتصال بالجوالات سوى نقطة، لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار مربعة وبالقرب من إحدى نوافذ مركز الإمارة، حيث اضطر كثير للتردد على مركز الإمارة لإجراء اتصال. ويلاحظ الزائر أن الحضور يضعون جوالاتهم في المكان ذاته لالتقاط أي إشارة قد توفر اتصالاً.

مركز صحي

أحد الشباب المتعلمين من المركز قال رداً على حوار دار حول أهمية وجود مركز رعاية صحية أولية: "المنتظر مل صبره" في إشارة إلى مطالب متكررة، لإيجاد مركز صحي، خصوصاً أن هناك أكثر من 200 أسرة فيهم المعاق وذوو الأمراض المزمنة، والحوامل.

شيبة

"الوطن" قامت بجولة في قرى "شيبة" وكانت البداية مدرسة أبو سعيد الخدري حيث المبنى مستأجر، ويغلب عليه أن يصنف "شبه متهالك". مبني بالبلك ومسقوف بالصفيح الذي لا يقي حر الشمس ولا زمهرير الشتاء، وفي البقالة القريبة من المدرسة كُتبت عبارة "مطعم وبقالة".

المطعم في ركن يسير من البقالة ومقوماته قدر ضغط وصحنان، والبقالة بها أنواع من البسكويت يبدو عليها انتهاء صلاحيتها.

هناك ثلاجتان تعملان بالغاز وبهما بعض الماء المبرد. ويقوم بعملية البيع رجل إثيوبي لم نعلم إن كان مقيماً أم مخالفا.

فوانيس الكاز

صادف أن التقينا بشباب يحاولون إعادة منزل غمرته الأمطار وأصبح أثراً بعد عين، هناك ترى مدى حاجتهم إلى هذه الإغاثة التي جاءت في وقتها. المواطن محمد جابر الحسني يقول: منذ أسبوعين ونحن مقطوعون عن العالم الخارجي.. لا وسائل اتصال ولا كهرباء، ومن يتمتع بها هم الطلاب والمعلمون في المدرسة، أما نحن ففوانيس الكاز هي وقود الإضاءة ليلاً، بعد صلاة العشاء ننام وعند الفجر نستيقظ لنرعى بهائمنا في الأماكن التي لم يصلها السيل، نسكن الخيام ونتخذ من الشبوك درعا يقينا من الحيوانات المفترسة ليلاً".

يحيى بهزان يقول: لدي شبك أتخذ منه منزلاً، وعند المطر الأخير الذي صاحبته رياح شديدة، اقتلعت الغطاء، وأصبحنا نفترش الأرض ونلتحف السماء، وحاجتنا إلى الخيام والبطانيات باتت أمراً ملحاً".

سر البقاء

وعن سر صمودهم خلال أسبوعين، قال يحيى سليمان: الله لطف بنا، فضلا عن أن لدينا تكاتف وتكافل اجتماعي ومواثيق تحتم على كل فرد أن يساعد الآخر حتى نحيا جميعاً، كان البعض يزود الآخر بالدقيق والسمن، فإن تعذر ذبحنا من "إمغنم" (الغنم) نشرب مرقتها ونأكل لحمها". وبالقرب من مبنى المدرسة المستأجرة، هناك مشروع حكومي لا يقل حالاً عن سابقه، ويبدو أنه متعثر فوجود ألواح الخشب مسقوفة تمهيدا لصبها بالخرسانة، وتشققها يشير إلى أن المشروع متعثر، يواكب ذلك كله ارتفاع في الأسعار. فهنا يشير العم بهزان الحسني إلى أن قيمة البلك ثلاثة ريالات، وأجرة نقل طن واحد من الحديد تصل الى ألفي ريال، وهذا يعني أن سعر نقله تساوي سعر تكلفة شرائه من السوق".

العشة

المباني هناك إما من الحجارة ومكسوة بالأسمنت، أو من الشبك المشغول على شكل خلايا النحل. والأهالي يعيشون حياة بدائية في تلك الغرف المسقوفة، في كلتا الحالين، بجذوع الأشجار ومغطاة بشيء من الخيش والخيم، سرعان ما تتساقط المياه مع أدنى زخة مطر. زرنا العم علي يحيى معيي، في عشته وسألته لماذا لا تسكنون في السراة؟ فأجاب "إنها ديرتنا، ديرة آبائنا وأجدادنا، نحن رعاة للأغنام، مصدر رزقنا تلك الماعز التي نجلبها إلى محافظة سراة عبيدة، أحد رفيدة خميس مشيط كلما سمح لنا الطريق بالعبور للتزود بخراجها في بعض المواد التموينية".

الكهرباء والاتصالات

لا وجود للكهرباء في قرى شيبة، لكنها وصلت إلى قرى راحة منزلا منزلا، ووصلت قبل الطرق والصحة. وأهالي شيبة يعيشون على ضوء الفوانيس، يقضون ليلهم حتى صلاة العشاء ومن ثم يخلدون للنوم، ليصبحوا مع صلاة الفجر مرددين الآذان ليشكل صدى الصوت مع سكون الليل منبها آليا يوقظ الجميع، وليذهب كل بغنمه نحو الجبال.

الطرق وجمعية البر

يشير العم عوض علي آل خزيم ويشاطره الرأي محمد متعب مسرع، إلى أن الحاجة باتت ماسة لإيجاد فرقة من وزارة النقل مجهزة بمعداتها، لفتح الطرق، أولاً بأول. الأمر الذي لم تغفله لجنة التوزيع حيث رفعت في محضر لها تأييد ما ذهب إليه المواطنون في طلباتهم المتكررة. ووجود مخزن أو مستودع خيري تتبناه إحدى جمعيات "البر" المنتشرة في عسير بات أمراً ملحاً، وفي ذلك ترشيد للنفقات، وتوسيع لدائرة اهتمام المجتمع بأخوة لهم. يذكر أن مدير طب الطوارئ في صحة عسير يحيى آل مفرح يساعده أطباء وفنيون قدموا خدمات علاجية لـ 230 محتاجاً في وادي راحة وشيبة بتهامة قحطان.