هناك قناعة منتشرة في الأوساط العامة والمتخصصة تشير إلى أنه لا أخلاق في السياسة. بمعنى أن السياسيين قد يقومون بما يحقق منافعهم ومصالحهم السياسية مهما كان تقييمها الأخلاقي تحت شعار وذريعة "الغاية تبرر الوسيلة". شواهد هذا السلوك في التاريخ البشري لا تحتاج إلى مزيد تكرار فنحن نرى اليوم وبأعيننا في سورية كيف يتحرك النظام السياسي هناك بلا أي محاذير أخلاقية فيصبح الإنسان مباحا للسياسي حين يقف في وجه مصالحه وأغراضه الشخصية. لكن حتى على مستوى أقل نجد في فساد سلوك الكثير من السياسيين والفضائح المالية والسلوكية التي تتوالي في أماكن مختلفة من العالم. كل هذه الشواهد تحيل إلى تأكيد المفهوم السائد بأن السياسة بلا أخلاق أو أن المجال السياسي هو مجال مفرغ من القيمة الأخلاقية.

يُستشهد كثيرا في هذا المجال بكتاب الأمير لميكيافيللي والذي كتب في القرن السادس عشر كوصفة لـ "الأمير" الجديد الذي يريد إعادة توحيد إيطاليا بعد أن طال تمزقها. لكي يحقق الأمير هذه المهمة فلا بد من أن يقوم بأعمال "لا أخلاقية". لا يعني هذا أن ميكيافيللي هو من ابتكر هذه الخلطة للسياسيين بل إن ما قام به هو أن شرّع للسلوك أو نقل السلوك السياسي من السياق العملي المغطى بحجج أخلاقية إلى السياق النظري المعلن. بمعنى أنه دعا السياسي الجديد للاعتراف بالواقع والتعامل معه مباشرة وعدم الالتفات للتقاليد التي يمكن أن تحدّ من تحقيق غاياته السياسية. ما فعله ميكيافيللي هو أن كتب الواقع السياسي في عصره وفي مكانه، أي في إيطاليا القرن السادس عشر.

دعواي هنا هي أن تغيّرا جذريا تجاه التقييم الأخلاقي للسلوك السياسي قد تحقق مع الدولة الحديثة أو على الأقل على السلوك السياسي داخل الدولة الحديثة بعد أن تتأسس. في كل دول العالم اليوم، من خلال دساتيرها، ضبط أخلاقي للسلوك السياسي في هذه البلاد على اختلاف مرجعيات تلك الدساتير. بمعنى أن السياسي الأميركي، مثلا، يتحرك داخل دائرة قانونية تنطلق من قيم أخلاقية. مثلا قيمة المساواة وهي قيمة أخلاقية عليا والتي أكد عليها الدستور وتحولت إلى قوانين أصبحت ضابطا وحكما على سلوك السياسي الأميركي. بمعنى أن السياسي الأميركي الذي لا يلتزم بهذه القيمة الأخلاقية "المساواة" تتم معاقبته قانونيا وباحتمالات كبيرة يمكن خروجه من المجال السياسي بالكامل. من الأمثلة الكلاسيكية على هذه القضية ما جرى للرئيس الأميركي الجمهوري نيكسون الذي اضطر للاستقالة والخروج من العمل السياسي قبل انتهاء مدة حكمه بسبب تورطه في تجسس على حوارات وأحاديث منافسين سياسيين. نيكسون هنا تم إقصاؤه بسبب عدم احترامه للقانون الذي يمثل قيمة أخلاقية عليا وهي احترام خصوصيات الآخرين وحرياتهم. مثال آخر، هذه الأيام تمت محاكمة شعبية أخلاقية هائلة للسياسي الأميركي الجمهوري تود أكين والذي تحدث عن وجود "اغتصاب مشروع" في حديثه عن قوانين الإجهاض في أميركا. ورغم اعتذاره المتكرر إلا أن الجميع يعلم أنه انتهى سياسيا وأصبح ورقة خاسرة حتى إن رفاقه في الحزب طالبوه بالاستقالة فورا من منصبه. كل هذه محاكمات أخلاقية للعمل السياسي تجعل من السياسة وبالقانون "أخلاقية".

من الواضح الآن أن الفرق بين حالة ميكيافيللي في إيطاليا القرن السادس عشر وبين السياسيين الأميركيين المعاصرين هو سيادة القانون الأخلاقي. في عصر ميكيافيللي لم يكن هناك قانون ليسود بل كانت غابة يتصارع فيها الأقوياء ولا يحكمها سوى قانون القوّة. في المقابل السياسي المعاصر يخضع لحكم القانون الذي استقر عليه الشعب وتولت المؤسسات مهمة تطبيقه وحمايته. ولكن السؤال المهم اليوم، هو عن القانون العالمي الذي يحكم السياسيين في حراكهم العالمي. نعلم أن السياسي الأميركي محكوم بقانون بلده في الداخل ولكنه تقريبا بلا رقابة في سلوكه الخارجي. العلاقات الدولية رغم معاهدات الأمم المتحدة المتعددة لا تزال أكثر ضبابية وأقل خضوعا لمحاسبة يمكن أن تعبّر عن " الضمير الأخلاقي العالمي". مواثيق حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل ومعاهدات الحروب والأسلحة واتفاقيات أخرى كثيرة تمثل ما يمكن التعامل معه على أنه قيم أخلاقية إنسانية كبرى لا تزال حبرا على ورق أكثر من كونها حقيقة ملموسة خصوصا في المناطق المتوترة والمضطربة في العالم. لا تزال هذه المساحات في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا مرتعا للسياسيين بالمعنى الميكيافيللي، أي السياسي الذي يتحرك في الغابة بلا قانون، أي السياسي الذي يملك قوة أعلى من أي محاسبة يمكن أن تواجهه، أي السياسي الذي يملك قوة تفوق قوة من حوله من البشر. هذه المساحات في العالم لا تزال هي ضمير العالم المجروح وعار الإنسانية الذي يشير يوميا إلى عجزها عن تحويل قيمها الأخلاقية إلى واقع على الأرض.

رغم التوجس الذي يصاحب هذه الدعوى إلا أن لا مجال لإخضاع السلوك السياسي في العالم للمنظومة الأخلاقية الإنسانية إلا بوجود "نظام عالمي جديد" يجعل باختصار وبوضوح هذه القيم الأخلاقية أقوى وأعلى سلطة من سلطة أي سياسي يخترقها حتى لو كان رئيس دولة. اليوم نشاهد بوادر هذا النظام من خلال محاكمات بعض السياسيين في محاكم العدل الدولية ولكن من الواضح أيضا أن هذه المحاكمات تخضع لحسابات سياسية أكثر من التزامها بقيم حقوقية تتحرك داخل سياقات مستقلة عن البنى السياسية. الجمعيات الحقوقية المستقلة اليوم هي نواة النظام الذي أتحدث عنه هنا. فهي تتأسس على المعادلة الأخلاقية التي تجعل من الحقوق والعدالة قيما أعلى من الحسابات السياسية وتمتلك شرعية وسلطة تعلو على أي سلطة سياسية في العالم. الطريق في هذا السياق طويل ومضن وضحاياه أمام أعيننا كل يوم ولكنه الطريق الأمل اليوم.