يُجمع معظم المحللين على أن "الإسلام السياسي" ظهر في العامين الماضيين (2010-2011) على هذا النحو من القوة والانتشار، وما زال كذلك حتى الآن، نتيجة لإخفاقات إيديولوجيات أخرى كالقومية، والاشتراكية، والليبرالية، وغيرها. وكان هذا الظهور وهذا الانتشار، من أجل إيجاد حلول للمشاكل المالية والاجتماعية العالقة في الوطن العربي، التي فشلت تلك الإيديولوجيات في معالجتها، وإيجاد الحلول لها. كما أن انتشار الفساد المالي والاستبداد في الأنظمة الدكتاتورية العسكرية (مصر الناصرية والساداتية والمباركية، وسورية الأسدية، وعراق صدام حسين ونوري المالكي، أمثلة غير حصرية) ساعدت على ظهور الإسلام السياسي، إضافة إلى عوامل كثيرة منها:

1- الصدمة الكبيرة التي أحدثتها هزيمة 1967، التي أفقدت الجماهير العربية أملها في خطاب الإيديولوجيات السابقة، وبحثت عن النجاة والنصر في الخطاب الديني/ السياسي، باعتباره "الملجأ الروحي" الوحيد، الذي كان على الساحة.

2- يعتبر بعض المحللين أن ما حدث في عام 1979، كان من ضمن أسباب انتشار ظاهرة التيار الديني/السياسي، الذي كان متمثلاً بالإخوان المسلمين قبل 25 يناير 2011، ثم أصبح متمثلاً بالإخوان وبالسلفيين أيضاً وبحزبهم (النور)، الذي طفا على السطح بقوة في انتخابات 2011 التشريعية المصرية. وكذلك "حزب النهضة" التونسي. وكان هذا كله نتيجة للظروف الاقتصادية القاسية والاجتماعية المتشددة، لكثير من البلدان العربية، وخاصة مصر، وتونس.

3- لا شك أن انخراط الشارع العربي السريع بالعملية السياسية، من خلال الثورة التونسية ثم الثورة المصرية بعد 25 يناير 2011، مقارنة مع معدلات النمو الاجتماعي والاقتصادي، كان له الأثر الكبير في انتشار ظاهرة التيار الديني/السياسي، في كل من تونس، والمغرب، ومصر، والعراق، وهو يعمل بنشاط ملحوظ في سورية، وليبيا، والأردن الآن.

4- ما قامت به أميركا في العراق وأفغانستان، اعتُبر من قبل الأصوليين والسلفيين "حملات دينية صليبية" ضد الإسلام، وهذه الحملات شحنت الشارع العربي بالكراهية، والعداء للغرب، ولأميركا خاصة، واعتُبرت بمثابة "الاستعمار الجديد".

5- كان لسوء الأوضاع المعيشية وزيادة الفقراء فقراً، يصل إلى حد الموت (يتمثل في دخل يومي بمعدل 3 دولارات، في معظم الدول العربية)، وزيادة نسبة العاطلين على العمل (وصلت نسبة البطالة في عموم العالم العربي إلى أكثر من 20%) نتيجة لأنظمة التعليم التقليدية، التي لا تُخرِّج ما يحتاجه سوق العمل العربي، مما يزيد في نسبة البطالة بشكل كبير، والاعتماد في الدول الغنية على الاقتصاد الريعي، وليس الاقتصاد المُنتِج والمُستوعب لأكبر عدد من الأيدي العاملة.. كل هذا، أدى إلى رفع شعارات دينية/سياسية مختلفة من قبل التيار الديني/السياسي، يدّعي فيها هذا التيار، أن لديه الحلول الناجعة، لكل هذه المشاكل العالقة، وعلى رأسها المشكلة الاقتصادية. ولا شك أن ممارسة التيار الديني/السياسي الآن للسلطة، في كل من تونس ومصر، سوف يضعه على المحك الواقعي، ويختبر قدراته السياسية في حل المشاكل المستعصية. وفي هذه الحال، فالليبراليون في العالم العربي، سوف يتعرضون لصدمة قوية، وهزيمة كبيرة. أما العقلاء منهم، فسوف يُسعدون لنجاح التيار الديني/السياسي في الحكم. فالمهم – للعقلاء فقط – في نهاية المطاف، مصلحة الوطن والمواطنين، بغض النظر من أين جاءت هذه المصلحة، من الشرق، أم من الغرب، من اليمين، أم من اليسار، أم من الوسط.

6- وأخيراً، إن موقف الغرب وأميركا من القضية الفلسطينية، ومن عذاب الشعب الفلسطيني في المخيمات، مدة تزيد على 60 عاماً حتى الآن، أقنع الشارع العربي "قناعة تامة"، بأن موقف التيار الديني/السياسي من السياسة الغربية بشكل عام، موقف صحيح وسليم، وواجب دعمه. ودعم من يفضح الغرب ويحاربه على النحو الذي يفعل التيار الديني/السياسي. ولكن لنعلم جيداً، أن الليبراليين في العالم العربي، يرون أن الغرب آثم كل الإثم في هذا المقام، ولكنهم لا يرون أن الإرهاب والمقاومة المسلحة، هي الحل الأمثل لهذه القضية، كما يرى التيار الديني/ السياسي. وإنما ينادي الليبراليون بالتفاوض والحل السياسي، الذي أصبحت إسرائيل ترفضه الآن، أكثر من أي وقت مضى. وبذا، لم يصبح أمام "الحق الشرعي" غير المقاومة والكفاح المسلح. وكأن إسرائيل بهذا، تدفع التيار الديني/السياسي إلى هذا الحل الانتحاري، غير المجدي، برأي كثير من الليبراليين.

يقول راي تاكيه (الخبير في مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، والمتخصص والمستشار في الشؤون الإيرانية والخليج العربي) ومعه نيكولاس غفوسديف (رئيس تحرير صحيفة "ناشونال انترست" الفصلية، التي تهتم بالقضايا الدولية)، في كتابهما (نشوء الإسلام السياسي الراديكالي وانهياره) إنه:"بسبب الطبيعة الفاسدة والفاشستية للعديد من المجتمعات الشرق أوسطية، إضافة إلى جمهوريات ما بعد الحكم السوفيتي، في آسيا الوسطى والقوقاز، فإن الحركات الإسلامية كما قال جون اسبوزيتو (الأستاذ الجامعي، ومدير مركز الأمير الوليد بن طلال للتفاهم المسيحي المسلم بجامعة جورجتاون في واشنطن) وجون فول (أستاذ التاريخ في جامعة جورج تاون في واشنطن) في كتبيهما (الإسلام والديمقراطية، 1996)، ستنبثق على الأرجح كحزب رئيسي معارض عندما يصبحون اللعبة الوحيدة في البلد؛ أي أنهم عندما يعملون في بيئات سياسية، ويصبحون فيها صوت المعارضة الوحيد المعوَّل عليه، ويستقطبون إذ ذاك أصوات الذين يتمنون فقط التصويت، ضد الحكومة أو النظام، إضافة إلى أصوات من ينتمون إليهم."

إن فائدة الإسلام من السياسة (وهي قليلة جداً، بل إن ضرر الإسلام من السياسة أكثر من فائدتها له) أو فائدة السياسة من الإسلام (وهي كثيرة جداً، وأوصلت التيار الديني إلى السلطة مؤخراً، في تونس، ومصر) يعتمد على مدى وعي، وحصافة، وحذق التيار الديني والسياسيين. ولبيان ذلك نضرب الأمثلة التالية:

1- في تونس استطاع "حزب النهضة" الديني، أن ينال أغلبية في الانتخابات، ويصل إلى السلطة، وكذلك فعل التيار الديني/السياسي (حزب الحرية والعدالة) من خلال طمأنتهما للشارعين التونسي والمصري بأن لا تشدد هناك، ولا تعصب ضد مظاهر الحياة الجارية والواقعة. وهم جميعاً ـ سياسياً ـ يؤيدون التعددية، وحرية الرأي، والديمقراطية.. إلخ.

2- في حين فشل التيار الديني الأردني، حتى الآن، في زعامة الشارع والحراك الشعبي، لتردد قياداته وميلها إلى المصالحة مع النظام، لا المطالبة والإصرار على الإصلاح. فلم تستفد السياسة الأردنية من التيار الديني ولم يستغل التيار الديني السياسة القائمة (فضائح الفساد، وسرقة المال العام، وقانون الانتخابات الجديد، وقانون المطبوعات والنشر الجديد.. إلخ) لشق طريقه إلى السلطة.

3- كذلك فشل التيار الديني الشيعي في العراق بقيادة "حزب الدعوة"، في إرساء النماء والاستقرار في العراق بعد تسع سنوات من "الحملة على العراق"، والإطاحة بالطاغية صدام حسين، بل أخذت الأمور بالتدهور أكثر فأكثر!