حين تترك وطنك مكرها تشعر بأن الكون قد تحول إلى زنزانة ضيقة. هذا ما يشعر به الكثير من النازحين السوريين في عمّان، أولئك الذين تركوا خلفهم كل شيء، لكنهم رغم ذلك يرفضون أن يكونوا عالة على الآخرين، وبدأوا بالبحث عن أسباب العيش.
ولم يقف الناشط محمد القطان صامتا أمام سيل النازحين من السوريين الذين يفدون بالآلاف إلى العاصمة الأردنية ولا يجدون ما يأكلونه ويشربونه. قرر القطان وبمشاركة عدد من الناشطات الأردنيات إيجاد عمل يوفر لبعض أفراد تلك الأسر مصدرا للرزق ووصل في النهاية إلى فكرة إنشاء مشغل للخياطة النسائية.
يقول القطان "كنت أفكر كيف يمكن أن نستفيد من قدرة أولئك النازحين في إنشاء عمل يدر على بعض تلك الأسر مالا يقتاتون منه، ووجدت بأن السوريين مشهورون بالخياطة، سواء كانوا رجالا أو نساء، فكانت هذه الفكرة التي وجدت قبولا عند بعض الأسر". وأضاف "تواصلت مع بعض الناشطات للوقوف على حال الأسر، وسؤالهم عن قدرتهم على العمل في المشغل، وكان اهتمامنا الأول بالأرامل اللاتي يعلن أطفالا، فمن كانت قادرة على الخياطة، فالمشغل يوفر لها عملا ومرتبا شهريا يمكن أن يسد حاجتها وحاجة أيتامها". وتابع "مبدئيا تكفل المشغل بسبع عاملات، بالإضافة إلى بعض المصممين".
كان القطان يتجول في المشغل ويصف خططه المستقبلية، وما يريد أن يصل له بقوله "إن ريع هذا المشروع سيخصص لكفالة الأيتام، ونتمنى أن نصل إلى كفالة أكبر عدد من الأسر ونوفر لهم لقمة العيش، ولا نتركهم يتسولون في الطرق".
دفاع عن الكرامة
وتقول الناشطة أم يزن الشربجي "حينما فكرنا في إنشاء هذا المشغل، لم نكن نتوقع الاستجابة الفورية من الخياطين والخياطات، فبمجرد أن عرضنا عليهم فكرة العمل معنا وافقوا فورا، وسبب ذلك في اعتقادي أنهم يحاولون الدفاع عن كرامتهم، وعدم بقائهم عالة على الآخرين". وتحدثت عن كيفية الوصول إلى كل هؤلاء الخياطين والخياطات قائلة "من خلال علاقتنا بالأسر في عملنا التطوعي وصلنا إلى الكثيرين ممن يملكون حرفا ليس في الخياطة فحسب، يمكن أن نجد لهم عملا في الأردن". وتضيف "هناك أكثر من 10 خياطين وفرنا لهم عملا في مشاغل أخرى، فالطلب على الخياطين السوريين في ازدياد نظرا لاحترافهم في هذه المسألة".
وتابعت أم يزن "ما لا تعرفونه أن هناك نساء لا يرغبن في العمل في مكان مختلط وهن يعملن معنا من بيوتهن، فقد قمنا بتوفير ماكينات خياطة لهن ويرسلن لنا ما يقمن بعمله". وأضافت "هناك مصمم أزياء "شاب" من مدينة حمص يقوم برسم تصاميمه لنا لتفصيلها، وهو مصمم محترف حقا، ويقوم بكل ذلك مجانا".
المصمم أبو محمود تحدث عن كيفية الوصول إلى عمّان والتحاقه بالمشغل، فقال "لم يدفعني للنزوح من حلب إلا البشاعة التي واجهناها من قبل الشبيحة، فكانوا يتربصون بنا أمام المساجد أيام الجمعة ومن يحاول أن يفتح فمه بشيء يقتل من فوره". وقال إنه هرب من حلب خوفا على أطفاله الخمسة وأمهم. وأضاف "اليوم أكملت شهرا منذ دخولي إلى الأردن، وفي هذا اليوم يكون قد مضى على عملي في المشغل أسبوعان، لكنني أرى هذا المشغل يكبر أمام ناظري كأحد أطفالي، إنني أحبه كثيرا، لأن كل ما يتعلق بهذا المشغل في سبيل الله".
ويتابع حديثه "أعمل في المشغل بأجر رمزي، وأموري تمضي، رغم الدخل المادي الضئيل الذي أتقاضاه إلا أنني موقن بأن هذا المشغل سيحقق مزيدا من الأرباح، لأن العمل الذي يقدّم لوجه الله، ستكون نتائجه باهرة فيما بعد".
الخياطة أم شيماء في الخمسين من العمر هربت من بطش النظام السوري خوفا على بناتها الصغار، وعلقت على ذلك قائلة "ما دعاني للهرب إلى عمّان هو خوفي على بناتي الصغار، فكل يوم كان يداهم بيت من بيوت جيراني في حي "كفر سوسة" بدمشق، وتأكدت بأنه سيأتي اليوم الذي يداهمون فيه بيتي، وربما يقومون بأعمال وحشية ببناتي، ففضلت الرحيل، لأنني مطلقة منذ 12 سنة، ولم يبق لي في هذه الدنيا إلا بناتي الثلاث الصغيرات".
وتابعت "أقيم الآن عند إحدى صديقاتي ممن كنت أعرفها سابقا في دمشق، فمنذ وصولي للأردن منذ قرابة الشهر ونصف، وصديقتي لم تقصر معي إطلاقا، لكنني لم أستسغ بقائي عالة على الآخرين، فحين اقترحتْ علي الناشطة أم يزن العمل في المشغل لم أتردد، ووافقت فورا لضمان قوت بناتي، ولكي لا أكون حملا ثقيلا على صديقتي التي احتضنتني وبناتي في بيتها". وتردف فيما يتعلق بدخلها من المشغل "ليس لي دخل ثابت أتقاضاه من المشغل، إنما أتعامل معهم بالنسبة، فبقدر ما أنجزه من ملابس أتقاضى مبلغا على ذلك".
تبقى هناك حكايات داخل المشغل لم تقل بعد، ومضينا وقد أدركنا بأن الحياة لا تتوقف على إنسان فقد معنى الوطن، وبات يعيش مشردا.