نشأت محبا للتاريخ وقارئا نهما له حتى كاد أن يأخذني عن القانون في بعض مراحل دراستي، وأحب أن أربط رواية التاريخ بمواقع أحداثه، أزورها وأستحضر شخوص الرواية وأستلهم منهم شيئا من عبرها. أتنقل بذهني في مكان الحدث بين طرفيه، أرى كيف نجح هذا وكيف سقط ذاك.. وكيف تم الكيد والتدبير من طرف وكيف تلافاه الآخر. قد لا تكون عبارة "التاريخ يعيد نفسه" دقيقة في ذاتها، ولكن من يقرأ التاريخ يستلهم منه كيف يعيد النجاحات إلى نصابها الصحيح وكيف يتجاوز الإخفاقات والفشل. ومن أبرز ما يمد التاريخ به عنقه إلى الحاضر ليرينا أثره وعظمته هو الوقف، خصوصا في تاريخنا الإسلامي، ولهذا أحب أن أتتبع آثار الأوقاف كلما سنحت لي الفرصة، وأراجع كيف يمكن لنا أن نستفيد منها لحاضرنا.
لعل كثيرا ممن يقرأ هذا المقال لا يعلم أن وقف الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه في المدينة المنورة لا يزال موجودا حتى يومنا هذا قريبا من الحرم المدني، وفي موقعه الحالي عمارة فندقية الغرض منها أن تدر للوقف شيئا من موارده! ولعل البعض لا يعلم أن لدينا في المملكة الكثير من الأوقاف ذات الأصول مرتفعة القيمة والتي كانت تؤدي أدوارا منقطعة النظير في توفير الخدمات والرفاهية لأغراض معينة، وقد رويت في مقال سابق كيف تتبعت آثار بعض أوقاف نور الدين زنكي في سورية (أخرجها الله من همها وتجاوز بها ما هي فيه من صراع ومحنة)، ورويت بعضا من عجائبها المستمرة حتى اليوم، وأضيف إليها ما رأيته في إسطنبول من إنجازات تسهم اليوم بشكل فاعل في النقلة النوعية والقفزة الاقتصادية التي تعيشها تركيا.
هنالك وقفان عمرهما يتجاوز الـ600 عام أوقف أحدهما والدة السلطان (السلطانة باسمة عالم) والآخر أوقفه السلطان محمد الفاتح، وقد تم تجميدهما أمدا من الزمن، أما الآن فأحدهما تحول إلى مستشفى حضاري ضخم وجامعة تدرس الطب وفقا لأعلى المعايير، والآخر إلى جامعة تدرس العلوم التقنية وفقا لشروط الواقفين، وهما يدران دخلا ضخما فضلا عن أنهما يحملان عن الدولة تكاليف باهظة، وقد ساهما من خلال دخلهما في إعادة ترميم عدد من الأوقاف القديمة والمشاريع المرتبطة بها خلال السنوات العشر الماضية بتكلفة بلغت تريليونات الريالات!
المملكة تبقى دائما أرض الخير والعطاء ويبقى أهلها أهل البذل والجود، ولا يمكن لقوم مهما بلغوا من البذل أن يسبقوهم في هذا الباب، حتى إنك تسمع بالمحتاج الذي يستحق الصدقة يقوم هو بالتصدق بماله، وقد رأيت وتواصلت مع من يوقف أكثر من نصف ماله على أعمال الخير، ورأيت من بلغت أوقافه مبالغ تتجاوز المليار ريال في عين حياته، كما سمعت عن أوقاف ووصايا بمبالغ ضخمة جدا موجودة لدينا هنا في هذا البلد الجواد الكريم، ولكن الملاحظ رغم ذلك أن الأوقاف لا تزال في طور الصحوة والعودة لما كانت عليه من قديم العهد، وأنها تحتاج لمزيد من الجهد والتثقيف والتنوير بأهميتها وقيمتها الاجتماعية والاقتصادية، كما أننا بحاجة لأن نتدارس المعوقات النظامية والإجرائية التي تمنع من تطور الوقف وإعادته لسابق عهده من حيث دوره في المسؤولية الاجتماعية وتطور المجتمع ونماء الثروة العائلية على مر الأجيال.
من خلال تواصلي مع عدد من المهتمين بالوقف بأنواعه في المملكة أجد أن هنالك عددا من العوامل التي من الممكن بقليل من العمل عليها أن نتجاوزها ونطور الوقف بموجبها، ومن أهم هذه العوامل، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، ما يتعلق بصياغة وثيقة الوقف، فمن خلال المدارسة والتواصل وجدنا أن أكثر الإشكاليات والقضايا وبالتالي التعطيل للأوقاف ناجم عن سوء الصياغة وعمومها، بما يجعل استمراره ودوامه أمرا شبه مستحيل دون تدخل من القضاء. من أمثلة هذه الإشكاليات في موضوع الصيغة ما يتعلق بناظر الوقف، إذ تجد بعض الأوقاف تحدد ناظرا بعينه دون وضع آلية لاستمرار النظارة فما يكون بعد وفاة الناظر أو عجزه إلا أن يلجأ المستفيدون للقضاء لتحديد غيره إن أمكن، أو أن يخرج الوقف من الولاية الخاصة إلى الولاية العامة، وقد يترتب على ذلك من الإشكاليات الشيء الكثير. أيضا من الجزئيات المتعلقة بضعف الصيغة ما يرتبط بتحديد العين الموقفة وآليات الاستبدال وطريقة اتخاذ القرار بشأنه، إذ إن معظم الوقفيات في المملكة لا تراعي هذه الجزئية الخطيرة التي ينتج عنها عند تهالك العقار أو الحاجة لاستبداله، سواء لعدم القدرة على الانتفاع به أو للمصلحة أن يأخذ الموضوع في أروقة القضاء والمحاكم فترات ممتدة قد تكون نتيجتها تفويت المصلحة التي أنشئ من أجلها الوقف. هنالك أيضا ما يتعلق بمصارف الوقف وتعيين المستحقين واستمرار مجلس النظار وآلية تغيير أعضاء المجلس عند الحاجة لذلك، وما يتعلق باستثمار أموال الوقف وغيرها من الأسباب والمعلومات التي من المهم أن يلتفت إليها الموقف عند صياغة وقفيته.
إننا بحاجة لتفعيل دور الأوقاف في المملكة وما كانت تسهم فيه من تطوير للمجتمع وقيام بدور فاعل في أداء كثير من الخدمات التي تثقل كاهل الدول، وفي نظري أن الوقف هو مجال الخصخصة الأولى بالاهتمام، لأنه مبادرة بالشراكة من المجتمع المدني للدولة لا تكليف من الدولة للمجتمع، وشتان بين المبادرة والتكليف.
تغريدة: ليس كالإخلاص سلعة عزيزة الوجود باهظة الثمن، وحين توجد فهي البركة عينها، كلما أنفقت منها زادت وفاضت.