جميل أن يعود الوطن إلى الذاكرة، لا لأنه منسي، فهو أكبر من أن ينسى ولكن ربما لأننا نبتعد بأذهاننا عنه قليلاً منشغلين بدهاليز الحياة وتفاصيلها القسرية، فلم تنتبه ذاكرة البعض منا إلى ذكرى هذا اليوم إلا قبل موعدها بأيام قليلة؛ لكن أن تصل متأخراً خير من ألاّ تصل كما يقال، فالأعياد والمناسبات الوطنية في العالم تحمل وراءها فكرة مبسطة لكنها كبيرة في معناها من خلال التذكير بالحدث.

والاحتفال باليوم الوطني السعودي هو ذكرى تستحق أن يحتفى بها وتنتظر بكل شوق، بعد مرور ما يقارب سبعة أعوام على صدور أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله بجعل هذه المناسبة عطلة رسمية؛ مما عمق الشعور بالوطنية من خلال هذه الذكرى المهمة.

هذا العالم يتغير باستمرار، ولن نستطيع البقاء جامدين حياله، وبالتالي الأجيال الجديدة من أبنائنا تتغير أيضاً، ولن نملك قفلاً لإغلاق هذا العالم الفسيح والمنطلق ونمنعهم من الولوج فيه في يوم ما، ولم يعد جعل هذا اليوم هامشياً بمبرر التشبه بالغرب الكافر، دون أن يكون استخدام كل وسائل الحضارة الغربية تشبها بهم، ما من شأنه كبت الشعور بالانتماء لوطن ثري بتعدد دوائر ثقافته المحلية، التي تشجع على جعل هذا اليوم أكثر ثراء من خلال صناعة الفرح لترتسم البسمة على وجوه الرجال والنساء والأطفال والمقيمين والمسافرين.

وارتسام بسمة الوطن العريضة بهذا الشكل لن تكون دون توفر مؤسسات المجتمع المدني التي يبادر أعضاؤها بأعمال تطوعية شاملة يستطيع أبناء الوطن عبرها أن يعبّروا عن مواطنيتهم بشكل عملي، سواء من خلال الرسم أو الكلمات أو الحروف أو الإيقاع الموسيقي أو أي شيء آخر يستطيعون فعله.

إلا أن هناك فئات نسيها المجتمع، أفرادها بحاجة للتعبير عن ذواتهم ربما أكثر من غيرهم، مثل ذوي الاحتياجات الخاصة الذين لن يعيقهم فقدان بعض حواسهم وأعضائهم عن التعبير إذا ما رغبوا لأن لديهم أساليب أخرى لا تخطر على بالنا، ومن الفئات المنسية أو المهمشة: المرضى الذين يرقدون داخل أسوار المشافي، وكذلك المساجين الذين ليس لديهم القدرة على الخروج خارج القضبان.

وانطلاقاً من حقهم الإنساني في المشاركة باحتفالات وطنهم في هذا اليوم المجيد، يفترض ألا يغيب بأفراد هذه الفئات الاجتماعية أو يغيّبوا عن الشعور بهذه المناسبة، فالمرضى يتم إشراكهم بأي طريقة كانت، والمسجونون ينالهم عفو عام أو جزئي في القضايا التي لا تمثل حقوقاً خاصة، وتوضع لأجلهم برامج اجتماعية وثقافية وترفيهية خاصة تدعمهم معنوياً، وتتاح لهم فرصة مشاركة ذويهم وأقاربهم وأصدقائهم لهم وهنا قد تكون هذه المناسبة فرصة لدعم العمل التطوعي من جهة، وتحويل السلبيين من أفراد المجتمع إلى إيجابيين فاعلين من جهة أخرى.

أما الالتفات للشباب فهو أمر في غاية الأهمية، فهم أيضاً بحاجة إلى برامج مصممة وفقاً لما يخدم حاجاتهم ومتطلباتهم، للإسهام في تحويل سلوكياتهم السلبية إلى سلوكيات إيجابية تتبلور عبر فكرة الوطن، فيكون الوعي بالبناء لا الهدم، وبالفرح لا الحزن، وبالبهجة لا التجهم.. فيتنامى إلى أذهان الجميع أن الوطن للجميع.

لكن مثل هذه البرامج غير متوفرة بالشكل الشامل والعميق حالياً؛ لأن الكثير من الإدارات والأجهزة الحكومية المناط بها تهيئة الأجواء الاحتفالية الوطنية تعمل دون تخطيط مسبق، عدا وضع اللافتات وشرائط الإنارة في الشوارع، وبالتالي هي بهذا الفعل لا تتوجه إلى أذهان وقلوب أجيال جديدة تغيرت نظرتها لما يعاد إنتاجه من أفكار مكررة وغير عملية؛ ولا سيما أن الأجيال الرقمية الجديدة - بدءاً من سن الطفولة - ترى وتقارن بين ما هو جيد وما هو رديء، وبين ما هو مقبول وما هو متميز، والمقارنة تصنع التساؤل، إلى أن يصبح مرتبطاً بقضية نفعية بحتة، فيكون التساؤل على نحو: ماذا قدم الوطن لي؟

إن غرس الوعي بالوطنية والمواطنة ليس أمراً جديداً ولا صعباً، لكنه يحتاج فقط إلى مقومات تكفل وجودهما الأساسي واستمراره؛ فشعور الإنسان بالأمان لا يكون دون وجود مسكن آمن، وشعوره بالرضا الوظيفي لا يكون دون وجود عمل مناسب، وشعوره بتحقيق ذاته لا يكون دون وجود مساحة فسيحة يتحرك خلالها فيبذل العطاء لوطنه دون طلب مسبق، ويتطوع دون أن يتقاضى أجراً، وهذا هو تجسيد الوفاء الوطني والبناء الاجتماعي لوطن يستحق أن يحتفى به إذ لا شيء أهم منه.