ما يلفت النظر في دراسة حالة التطور الديموجرافي للمملكة ليس فقط قضية الانفجار السكاني الذي تشهده المملكة اليوم وما يبعثه هذا الأمر من تحديات راهنة، وإنما مسار هذا التطور وانعكاساته المستقبلية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وكذلك ما يعنيه بالنسبة للوضع الراهن للسعودية. ففي حين نتحدث عن الزيادة المضطردة لعدد السكان في المملكة ومعدلات الخصوبة المرتفعة لدينا، فإن الأرقام تكشف أن نسبة زيادة السكان انخفضت إلى حوالي 3.8% في 1992 ثم إلى 2.5% في 2004 بعد أن كانت في حدود 6% سنويا خلال السبعينات والثمانينات، ومن المتوقع أن تصل إلى معدل 1.5% خلال العقد 2015-2025. وبالتالي فإن ما تكشفه الأرقام هو أن نسبة زيادة السكان في السعودية تتناقص ولا تزيد مع الوقت، وهو ما يخالف النظرية السائدة حول النمو السكاني الكبير الذي يشكل التحدي المستقبلي أمام المملكة.

هذا الأمر لا يعني أن التحدي الراهن في نسبة السكان الكبيرة من الشباب غير قائم، ففي واقع الأمر يمكن لعدد السكان أن يزداد في حين تنخفض معدلات الخصوبة وذلك بسبب (inertia) "القصور الذاتي" (كما في الفيزياء حيث يقاوم الجسم المتحرك أي محاولة لإيقافه). وبالتالي فما تشهده المملكة من الارتفاع الحالي لعدد السكان هو نتاج معدلات الخصوبة المرتفعة قبل جيل أو أكثر بينما في المستقبل ستشهد المملكة تراجعا في نسبة زيادة السكان المضطردة هذه بسبب تراجع معدلات الخصوبة بين أبناء الجيل الحالي. معدل الخصوبة (وهو متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم المرأة في حياتها) في المملكة انخفض من 7.3 تقريبا خلال الفترة 1975-1980 إلى 2.31 في 2011. بينما يشكل معدل 2.1 معدل الاستبدال (replacement level) الأدنى المطلوب للحفاظ والزيادة على عدد سكان أي دولة مع الوقت.

في مقال بعنوان "ثورة العالم الإسلامي الهادئة" يكشف نيكولاس إبرشتاد (Nicholas Eberstadt) عن نتائج دراسة قام بها تشير إلى أن العالم الإسلامي أحد أسرع مناطق العالم تناقصا في معدلات الخصوبة، 6 من أعلى 10 دول شهدت أكبر نسبة في انخفاض معدل الخصوبة في العشرين سنة الماضية كانت دول إسلامية منها 4 دول عربية.

السعودية شهدت خلال الفترة 1975-1980 إلى 2005-2010 نسبة انخفاض في معدلات الخصوبة تصل إلى سالب 60%.

هذا النمط في التطور الديموجرافي يفسره الاقتصاديون على أنه نتاج طبيعي لعملية التطور والتنمية في الدول. فلطالما ارتبطت معدلات الخصوبة ونسب الزيادة المرتفعة للسكان بالدول الفقيرة، بينما تشهد الدول الغنية نسبا منخفضة في زيادة السكان ومعدلات الخصوبة (أعلى معدلات خصوبة في العالم اليوم في النيجر والصومال وهما في المقابل من أكثر الدول فقرا). ويعزو الاقتصاديون زيادة السكان عند الدول الفقيرة أو الطبقات الفقيرة في المجتمعات إلى عدة أسباب منها: 1/أن ممارسة الجنس تمثل بديلا مجانيا للترفيه الاجتماعي الذي يزداد كلفة (الذهاب لمطعم مثلا). 2/تمثل زيادة الأبناء بديلا للضمان الاجتماعي (مصدر إعانة للآباء عند المرض أو كبر السن). 3/يمثل الأبناء رديفا اقتصاديا (مزيد من الأبناء يساوي مزيدا من الأيدي للعمل والدخل). 4/انخفاض كلفة الطفل (عدم اهتمام الفقراء بتعليم أبنائهم مثلا).

ولذلك يرى أهل الاقتصاد أنه من الطبيعي مع ازدياد معدلات التنمية في دولة ما واتساع رقعة الطبقة المتوسطة في المجتمع أن تنخفض في المقابل معدلات الخصوبة، ويعزون ذلك إلى مجموعة من الأسباب منها: 1/ تعليم المرأة الذي يجعلها فاعلة اقتصاديا (اهتمام المرأة بالحصول على عمل وراتب بدلا من مزيد من الأبناء). 2/ توفر ضمانات اجتماعية في الدول بدلا من الاعتماد الذاتي على الأبناء. 3/معدلات استخدام التقنية الحديثة (الآلات الحديثة تغني المزارع اليوم عن مجموعة من الأبناء لإعانته في زراعة الحقل على سبيل المثال). 4/ارتفاع كلفة الطفل (اهتمام أبناء الطبقة المتوسطة مثلا بإدخال أبنائهم مدارس خاصة للحصول على تعليم أفضل أو الحصول على علاج في مستشفيات خاصة).

النقطة الأخيرة تحديدا ذات أهمية خاصة، حيث إن ارتفاع كلفة الطفل اليوم باتت أحد أهم أسباب عزوف كثير من الشباب عن الحصول على مزيد من الأبناء، وبالأخص عند الطبقة المتوسطة التي يفترض أنها تشكل السواد الأعظم من المجتمع. ما تكشفه نسب انخفاض معدلات الخصوبة لدينا في المقابل هو حقيقة أزمة المجتمع بشكل عام والطبقة المتوسطة بشكل خاص، فانخفاض معدل الخصوبة بهذا الشكل (60% على مدى جيل واحد) هو مؤشر لوجود مشكلة اقتصادية واجتماعية قائمة اليوم، وتفسير هذا الانخفاض بأنه نتيجة طبيعية للتنمية غير كاف ولا يكشف أوجه المشكلة الحقيقية.

الإنسان بطبيعته في المجتمعات البدائية يجنح نحو عدم إنجاب أطفال في أوقات شح أو ندرة الموارد (كالمجاعات مثلا)، وذلك لعدم قدرته على الاهتمام بالطفل أو إطعامه في ذلك الوضع. وذات الأمر ينطبق على المجتمعات الحديثة بصورة أخرى، حيث إن الشباب الذين يشعرون أنهم لا يملكون ما يكفي من الموارد للاهتمام بمزيد من الأطفال سيعزفون عن الحصول على مزيد منهم.

إن الشعور بالحاجة مسألة نسبية وليست مطلقة، فالشاب قد يشعر أنه أحوج من أبويه أو محيطه. وهو ما يقود إلى نتيجة غريبة تحدثت عنها بعض الدراسات مفادها أنه في حين تزداد بعض الدول والمجتمعات ثراء فإن الشباب قد يشعرون فيها أنهم أكثر حاجة، وذلك لارتفاع كلفة استمرار نفس نمط ومستوى الحياة في ظل آبائهم مثلا. هذا الأمر يتضح بصورة جلية عند النظر للطبقة المتوسطة في أي دولة، حيث إنه يتعين على ابن الطبقة المتوسطة اليوم إذا ما أراد لابنه أن يحصل على مستوى حياة مساو له أو أقل قليلا أن يوفر له تعليما جيدا ورعاية خاصة، وهو الأمر الذي يشكل عبئا وتكلفة عليه، هذا عدا عن تكاليف العيش المتعددة التي تصب في ذات الاتجاه، وتشعر ابن الطبقة المتوسطة أنه أكثر حاجة من أبويه. هذا التحدي الذي لم يكن قائما لدى الجيل السابق ويبرز بقوة لدى الجيل الحالي قد يفسر أسباب هذا الانخفاض الكبير في معدلات الخصوبة لدينا اليوم، ومن جهة أخرى فهذا الانخفاض الكبير مؤشر على وجود عبء ومشكلة حقيقية لدى الشباب اليوم، وغالبا ما تكون الانعكاسات المستقبلية لمثل هذا الأمر خطيرة أهمها ارتفاع معدل الرفض الاجتماعي وعدم الاستقرار.