احتفت المملكة شعبا وقيادة في مطلع هذا الأسبوع، باليوم الوطني، اليوم الذي أعلن فيه استكمال توحيد البلاد، على يد المؤسس الراحل الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود طيب الله ثراه. وفي هذه المناسبة، يتبارى الجميع كل عام، قادة ونخب ومواطنون، لاستعادة أعطر الذكريات في مسيرة بناء الوطن.

ومع وعي أهمية استعادة الذكريات الماضية، في الحديث عن هذه المناسبة، لعلها تكون محفزا لمزيد من العطاء، والتمسك بوحدة التربة، والدفاع عن الهوية والانتماء، فإن كثيرا من الزملاء قد كتبوا وفصلوا، وأعطوا هذه المناسبة حقها من القراءة والتحليل. وأجد من المناسب أن نجعل من التاريخ معضدا ومساعدا لنا لنقرأ المستقبل، في مفرداته وعناوينه. خاصة أن منطقتنا العربية تمر بمنعطفات تاريخية غير مسبوقة، وعلى أكثر من صعيد.

ولذلك فإن احتفاءنا بهذه المناسبة، هذا العام يختلف عنه، في الأعوام السابقة، كونه يأتي والمنطقة العربية بأسرها، تموج بأحداث جسام، أخذت مكانها تحت مسمى "الربيع العربي". ويتوقع أن ترسم نتائج هذه الأحداث خارطة المنطقة سياسيا لأعوام طويلة قادمة، بما يتسق مع المشروع الأميركي، الذي جرى الإفصاح عنه منذ عـدة عقود، بخلق سايكس بيكو جديدة، تجعل من الكيان الصهيوني الغـاصب، الكيان الأقوى والأكبر في المنطقة، وفقا لهنري كيسنجر مستشار الرئيس نيكسون لشؤون الأمن القومي، في تصريحات أدلى بها بمنتصف السبعينيات من القرن المنصرم، وأيضا تصريحـات جيمس بيكر، وزير الـخارجية الأميركي بعهد الرئيس جورج بوش الأب، في بداية التسعينيات، ودونالد رامسفيلد بعد حوادث سبتمبر عام 2001. وقد أدت هذه الأحداث، حتى الآن، إلى الإطاحة بنظم سياسية في عدد من البلدان العربية، وخلخلة أنظمة أخرى، لن يكون مستبعدا أن يكون مصيرها، مصير من غابت شمسه من الأنظمة.

والمؤكد أن ما جرى، ويجري الآن في عدد من البلدان العربية، أن القراءة الدقيقة له لا يمكن أن تحسبه في خانة التدخلات الخارجية والتآمر على الأمة فقط، مع أن ذلك في جانب كبير منه، حقيقة يصعب إنكارها. لكن ذلك ليس بكاف لنجاح مخطط العدوان علينا. فلكي يتمكن العدوان من تحقيق أهدافه، لا بد من وجود ثغرات يتسلل منها إلى داخل أوطاننا. وللأسف فإن معظم الأقطار العربية، تنوء بثغرات كبيرة تجعل التسلل إليها ممكنا، بل ومحققا.

ولا جدال أن عددا من هذه البلدان، جرى توحيده بقوة الأمر الواقع، بعد رحيل الاستعمار التقليدي مباشرة عنها. وبعض هذه الدول لم تتجاوز أعمارها الستة عقود. ولا ضير في ذلك أبدا، عندما تخلص النوايا، وتقوى العزيمة، ويجري تغليب الهوية الجامعة الجديدة على الهويات الجزئية التي سادت قبل توحيد تلك البلدان. لقد غاب للأسف مفهوم المواطنة، بتلك البلدان، ومع غيابه مارس الناس حيلهم الدفاعية بالعودة إلى ما كان شائعا من قبل، كل يستند إلى عشيرته وقبيلته وطائفته.

لقد ظلت هذه البلاد، والحمد لله والـشكر له على ذلك، بمنأى عن هذه المتاعب. وشهدت بلادنا العزيزة منذ عدة عقود طفرة تنموية هائلة، بلغت ذروتها، مع قيادة خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ولذلك فإن الاحتفال باليوم الوطني، ليس مجرد طقوس نمارسها كل عام، ولكنه إعلان واضح وصريح، بأن لدينا ما يستحق الحياة، وما هو جدير بأن نبذل الغالي والنفيس دفاعا عنه. هذا الوطن الجميل المعطاء، جدير بأن ترفع ساريته عاليا، وأن تظل تاجنا العالي طالما بقي فينا عرق ينبض.

عشق الوطن والوفاء له، ينبغي أن يدفع بالجميع إلى التسامي فوق الهويات الجزئية، والدفاع عن الهوية الوطنية. فليس بوطني من يروج للكراهية وللطائفية، أو من يقف ضد شريحة أو منطقة أو حتى قرية أو حي في مدينة من هذه المملكة، التي ينبغي أن تغمر أبناءها روح الانتماء للبلد الواحد، وتحت ظل هذه القيادة.

في اليوم الوطني احتفاء بما تحقق وهو كثير، وتطلع إلى المزيد من النمو والازدهار والعزة والكرامة.. في اليوم الوطني نبذ للكراهية وتغليب للتسامح، ولروح المودة والمحبة. وذلك ليس منة من أحد بل هو أوجب الواجبات للحفاظ على السفينة، وهي تبحر في أمواج متلاطمة تحيط بها من كل زاوية ومكان. وفي ذلك تماه مطلق مع مكارم الأخلاق، ومحاسن الفضيلة وقول الحق جل وعلا: "ولو كنت فظا لانفضوا من حولك".

في اليوم الوطني، تحية صدق للذين يسهرون على أمن هذا الوطن واستقراره، وفيه أيضا دعوة مخلصة، لكل أبناء هذا البلد العزيز الآمن، لانصهار مفهومي الوطن والمواطنة، وتحقيقها لمقابلة الاستحقاقات التي حان موعد قطافها، وتحقيقها ليس فرض كفاية.