انتقل إلى رحمة الله الأسبوع الماضي مواطنان إثر إصابتهما بفيروس الكرونا "الجديد"، حسب نتائج المختبر الهولندي الذي قام بتحليل عينة من أحد المتوفيين بعد إصابته بالتهاب رئوي حاد، وفشل كلوي حاد أيضا. هذا الفيروس ما كان ليكتشف ـ بعد مشيئة الله ـ من دون شجاعة بروفيسور الأحياء الدقيقة في أحد المستشفيات الخاصة في مدينة جدة، والذي قام بإرسال العينات للمختبر الهولندي، لتثبت ما توصل له مختبرهم. هذا البروفيسور الشجاع، الذي لم يفكر للحظات بعواقب فعله هذا على المنظومة الإدارية لوزارة الصحة وأجندتها المعتادة، قام بواجبه الإنساني، وبشكل شمولي بالتأكد بطريقة مباشرة، حتى يتسنى للمملكة ترصد الحالات المشابهة ومحاولة إيجادها بشكل مبكر، وبالتالي توفير العلاج الداعم في المراحل الأولية، عوضا عن الانتظار لحين امتلاء العنايات المركزة، ولنا في أنفلونزا الخنازير عبرة.
هذه الشجاعة صاحبها إعلان المملكة المتحدة عن وجود حالة مشابهة لمريض كان في زيارة للمملكة العربية السعودية قبل وصوله لأراضيها. هذا المريض يرقد حاليا في العناية المركزة بسبب التهاب رئوي حاد، ونتائج تحليل عينات تشير إلى الكرونا "الجديد".
وبعدها أتى إعلان وزارة الصحة ـ في اليوم الوطني ـ على غير العادة لتصرح عن الحالات والوفيات الناتجة عن الكرونا "النادر" أحد فيروسات الأنفلونزا الموسمية "المعروفة"! ملأت الوزارة تصريحها بكل الكلمات المنمقة من شفافية واستقصاء في استغفال واضح للجمهور، الذي يعلم أنها لم تكن لتصرح عن الحالات لولا وصول العينة من البروفيسور بجدة للمختبر الهولندي، ولم تكن لتصرح لو لم تعلن المملكة المتحدة عن الحالة القادمة من أراضينا، وأكبر دليل هو التسلسل الزمني.
قام بروفيسور الأحياء الدقيقة بنشر معلومات الحالة، ونتائج المختبرعن طريق نظام الإبلاغ العالمي للأمراض المعدية وتفشيها المعتمد على الإنترنت، والتابع للجمعية العالمية للأمراض المعدية، في الخامس عشر من سبتمبر الحالي، أي قبل أسبوع من تصريح وزارة الصحة، ومن ثم قامت وكالة حماية الصحة في المملكة المتحدة بإصدار بيانها الصحفي التفصيلي، يوم الأحد الماضي، والذي أشارت فيه للحالات والوفيات لدينا. هذه العوامل أحرجت وزارة الصحة، فأصدرت بيانها المقتضب والمليء بالتناقضات، في تخبط واضح وكأن لسان حاله للإعلام والجمهور: لعلمكم فقط، يوجد لدينا حالات ووفيات مع تحيات وزارة الصحة.
قامت وكالة حماية الصحة في المملكة المتحدة، وهي المرادف للطب الوقائي بوزارة الصحة، بإصدار عدة بيانات تفصيلية، أحدها لوسائل الإعلام والجمهور، والآخر للعاملين في القطاع الصحي، ولم تقف هنا، بل قامت بإنشاء صفحة إلكترونية تستعرض فيها أهم الأسئلة والأجوبة عن فيروس الكرونا عامة وعن الحالات خاصة، مذيلة بمعلومات التواصل مع الوكالة في حال الحاجة لها. أما الطب الوقائي لدينا، في مركزية معتادة، قام بالتفضل على وسائل الإعلام بلقاءات مع وكيل الوزارة المساعد للطب الوقائي، الذي صرح بشكل لا علمي أن 99? من الكرونا العادية تصيب الإنسان مثل أي زكام، فقط ليعيد للنسبة 99? بريقها.
بل وتجاوز ذلك للتصريح بشكل تهكمي أن الإنسان لا يعلم عن إصابته بالكرونا إلا بوجود مختبر في منزله، في فضح واضح للضعف العلمي الذي لم يسعفه بذكر أن فيروس الكرونا "العادية" كما أسماها لا يمكن عزله مختبريا، لأن الأشخاص غالبا ما يتعافون منه، وأنه يمكن عزلها غالبا في حالتين فقط: حين تستمر الأعراض أكثر من21 يوما، وأن هذا أحد المعايير التي تستخدم في ترصد الحالات التي تستمر أعراضها أكثر من أسبوعين، في دلالة أن الـ"كرونا" قد يكون "غير عادي"، والحالة الأخرى أن يتم عزل الفيروس من عينة جثة المتوفى كما حصل لمواطن جدة يرحمه الله.
تصريحات وزارة الصحة ومسؤوليها تحرف الحقائق، فهي تذكر أنه نادر، بل وتتجاوز لتفسيره على أنه تحول للفيروس نتيجة التغيرات الجوية الموسمية، مع أن الحقيقة أن الفيروس هو نوع جديد من عائلة فيروس الكرونا كما أظهرت التحاليل المخبرية في هولندا، وأن منظمة الصحة العالمية والمملكة المتحدة ما زالتا تدرسان الفيروس وسلوكه.
وزارة الصحة كسرت القاعدة الأولى في أصول التعامل مع الجمهور في حالات التأهب والتفشي، ألا وهي الثقة، فكيف نثق بمن تأخر بالتصريح وقام بتحريف الحقائق وقام بالتطمين مبكرا من دون الاستناد لأدلة؟
تبعات فقدان ثقة الجمهور في الوزارة خطيرة في حال ـ لا سمح الله ـ أن تحولت هذه الحالات المحدودة لتفشي، وذكر مصطلح الشفافية لا يعني بالضرورة ممارستها، فالوزارة استخدمتها في سياق التفضل بها لفظا لا فعلا. الشفافية هي أن تقوم بعرض الحقائق والتوعية بالأدلة العلمية المثبتة، وإعطاء الجمهور وسيلة للتواصل في حال الحاجة. الشفافية أن تذكر الوزارة الآلية التي رصدت بها هذه الحالات، وما الخطوات التي يجب على الجمهور اتباعها في حال ظهور الأعراض على أحدهم. الصحة العامة ليست عبارات رنانة ومنمقة، وتهكم بقلق الجمهور، والتقليل من تساؤلاتهم، بل هي شبكة أمان صحي تساعد في حماية المواطنين حين يسقطهم النظام الصحي.