كانت السماء ملبدة بالغيوم، وقطرات المطر تترقرق على ظهور الصخور، المحدبة منها والمقعرة، ولم يتوان قوس قزح في التحلق عاليا ليعلن عن رحيل وابل سريع مر مرور الكرام، فترك وراءه رائحة الثرى ممتزجة بعبق البعيثران والعرعر والشث والكادي والخزامى، وكل نبتة أحبت جارتها، مالت عليها لتهمس في أذنها الحمد لله، رحل الناس وانكسر الفاس. إلا أن جارتها فائقة الأنوثة والرعونة والنعومة في نفس الوقت انتشت وهمست: "كلام نسوان" وحينها ضحك الجميع، لأنهن على ما يبدو قد أدركوا شيئا في نفوسنا العجيبة، وكأنها تبحث عن حبة قمح في رعاف الثرى لكي لا ينكشف سرها، وكما يقال في المثل الشعبي "الصب تفضحه عيونه".. من هو الفاس ومن هم الناس وما هي علاقة كل منهما بالآخر وما سر هذا الإضمار؟ هل هناك رقابة قاسية تمنع كل هذه الشجيرات عن الخوض في كلام مهم وهام حتى يصبح بعد عدد من قطرات المطر سريا للغاية؟

ويسدل ستار الغسق فلا نرى من هذه الشجيرات وزهوها وشدة خضرتها المتباين مع مختلف ألوان أزهارها التي تفتقت بها أغصانها سوى (سلويت) لأن الشمس أصبحت خلفها والظلام أمامها وبهذا يتحول المنظر كله إلى "سلويت" إن أصبحت الشمس خلفه.

في الحقيقة إن أم الفاس هي اسم لحكاية شعبية كانت تجوب الأزقة والحارات، وكانت تُحكى لتستدر النوم في عيون الأطفال، أو تحكى لكي تستدر الضحك من أشداق ثلة السمر، ولكنها حقيقة حكاية تستحق التأمل للوقوف على كنهها واستخراج جوهرها، لأنها وبلا شك لا تنم إلا عن وعي فطري لأجدادنا لكي يتركوا لنا ثروة فكرية عن طريق ما يسمى بالتسرب الانفعالي والانزلاق الوجداني المتمثل في تراثنا وعقيدتنا.

أم الفاس كما في الحكاية هي فتاة فائقة الجمال تقضي وقتها بين الجبال، لا يستطيع أحد الوصول إليها لشجاعتها وقوة عزيمتها، وبذلك تحمل فأسا في خاصرتها لتضرب به عنق كل من يحاول الاقتراب منها. وفي ذات ليلة سمر انبرى أحد رجال القبيلة وقال: أنا سأنال من أم الفاس. وحينها قرر الحاضرون أن له مئة ناقة من مئة رجل، وحينها بطبيعة الحال سيصبح هو رئيس القبيلة، لأن العرف لديهم يقتضي أن من يمتلك العدد الأكبر من النوق هو من يرأس الجميع، فذهب الرجل من ليله ووزع في كل غار نوعا من الطعام، وفي الصباح تنكر في زي بهلول مسكين ومر من أمامها، أشهرت أم الفاس فأسها في وجهه ولكنه دافع عن نفسه بأنه مسكين ضعيف لا خوف منه، وأنه يخاف الله وحده، حينها اطمأنت أم الفاس له، جلس في مدار مرعاها، وفي لحظة أخذ يصرخ ويقول: "لبيك اللهم لبيك"، سألته أم الفاس فقال: إن الله يأمرني أن نذهب إلى الغار كذا لكي نأكل برا وعسلا وتمرا، فذهبت معه وأكلت وكأنها لم تأكل من قبل. ثم تكررت الحيلة وفي كل مرة يذهبان إلى غار آخر به نوع من طعام آخر. وبطبيعة الحال كانت أم الفاس شديدة الجوع والعطش حتى سألته بقولها: أدع لنا ربك لكي نشرب ففعل حيلته التي انطلت عليها. وفي آخر القول أن الرجل أخذ يصرخ ويقول لا لن أستطيع. سألته أم الفاس عن سبب فعله "الهستيري" فقال إن الله يأمرني أن أذهب بـ(خويتي) أي صديقتي إلى الغار الفلاني. وما كان من أم الفاس إلا أن قالت وبلا تردد: أطع ربك فيما قال! فذهب بها وذهبت وكسب الرجل الرهان!

هذه الحكاية لها مضمرات كبيرة فأم الفاس هي الأرض، وذلك لتلك العلاقة الكبيرة والحميمية بين الأرض والفأس، إذ لا تُعمَّر الأرض إلا بالفأس، ومنه تكتسب قوتها وعزتها، وبه تُدّر الأرض عطاءها، وذلك كانت الحكاية تأخذ من الفاس دلالة قوية في فك شفرة هذه الحكاية. لن استطرد في شرح وتحليل مفردات هذه الحكاية في هذا المقال لعدم تخصص هذا المكان في هذا الشأن، ولكن كل ما أريد قوله من مفهومها هو أن قوة الأمم في قوة اقتصادها، فماذا إذا كانت بطن أم الفاس مكتفية مملوءة؟ أم الفاس وقعت عن طريق بطنها واحتياجها وهذه هي قضية خطيرة، إذا أدركت الشعوب الحرة مدى الاكتفاء الذاتي لديها ومدى ما يحققه ذلك من قوة ومنعة، فالمثل الشعبي يقول: "إن الحرة لا تأكل بثدييها"، ولهذا حين أراد الرجل المحتال الإيقاع بأم الفاس درس حالها، وأدرك احتياجها، وعلم أنها تقضي جل وقتها بين الجبال وتحتاج إلى طعام، بل احتياج إلى أبعد مدى!

لم تنس جدتي في حكايتها أن تنسج من خيالها حقيقتين هامتين في التنويه إلى خطورة أدوات الإيقاع بالهدف، وخاصة في عالمنا نحن أصحاب الوجدانات شديدة الخصوصية والعقيدة المترسخة بدواخلنا، ولذلك كان المدخل إلى أم الفاس من ثلاثة مداخل شديدة الدقة والتحديد وهي "البطن عن طريق العقيدة والوجدان" وتلك هي استراتيجيات العالم في السياسة المعاصرة. وكم من شباب لنا ضاع في أتون التجارة باسم الدين فدخل في دائرة التطرف والتكفير ومليشيات الانتحاريين بدون وعي لمسالك ومهالك هذه الأمة.

ما يجتاح عالمنا اليوم من اختراق وتغلغل بهدف السيطرة والانخراط في بوتقة العالم الواحد أو القطب الواحد، هو تسلل عن طرق هذه المداخل الثلاثة التي غالبا ما يتميز بها عالمنا العربي أو ما يسمونه بـ"العالم الثالث" ثم هل لنا أن نسأل ما هو العالم الثالث؟

دول العالم الثالث هي الدول التي لا تتبع النظام الرأسمالي الغربي ولا تتبع النظام الشيوعي، وأول من أطلق هذا المصطلح هو الاقتصادي العالمي الفرنسي "الفريد سوفيه" في مقال له عام 1952 وبالتالي صنفت هذه الدول حسب آليات اقتصادها ومدى قوته من ضعفه قربا وبعدا للنظام الاقتصادي العالمي، فكان المدخل وسيلة للتصنيف والإقصاء عن وسامة العالم وتقدمه هو كشف الغطاء عن "بطن أم الفاس"..