ليس هنالك دولة طبيعية في التاريخ، تسعى أو تعمل من أجل تقويض أساسات أركانها، ولكن هنالك دول طبيعية في الماضي وفي الحاضر، سعت لتقويض أركانها، من غير أن تقصد، وسقطت سقوط مدويا ومريعا. هنالك أسباب موضوعية، لا شخصية هي التي تقوم بتقويض أساسات الدولة واحدا تلو الآخر؛ حتى لا تستطيع أساساتها تحمل أثقالها فتنهار، بمقدمات أو بدون مقدمات أحيانا.
الدولة هي جهاز لإدارة الحياة الجمعية لمجموعة من الناس، وذلك من خلال حفظ حياتهم وأموالهم ومعتقداتهم وصيانة كرامتهم وتأمين سلامتهم في حلهم وترحالهم، وإكسابهم هوية جمعية واحدة يعرفون بها، خارج حدود دولتهم. إذاً فالدولة هي في الأخير، عبارة عن جهاز إداري كبير أو علوي، يدير شؤون حياة الناس؛ وعليه فنجاح الدولة واستمرارها، مكفول بقدرتها على إدارة حياة الناس ورضاهم عنها، والعكس صحيح. ومن هنا نتوصل لحقيقة مفادها، بأن قوة الدولة وفاعليتها مرهونة بنجاح مؤسساتها في ملامسة حاجات الناس الضرورية وتلبيتها أولا بأول، وهذا يتطلب حيويتها وديناميكيتها.
أي أن على الدولة واجبات، يجب أن تقوم بها للناس من خلال مؤسساتها، وهذا يعني أن أداء الدولة في تأدية مهامها الضرورية في خدمة الناس، يعتمد على تكامل هياكلها التنظيمية من مؤسسات وسلاسة وديناميكية أنظمتها التشغيلية. ولذلك فقد تكون الدولة جادة في إيصال خدماتها للناس، ولكن يوجد قصور في هياكلها التنظيمية أو خلل في أنظمتها التشغيلية، فلا يتسنى لها أداء واجباتها تجاه الناس، وهذا مكمن خلل لا يغتفر.
وهنا لابد من التفريق بين الدولة والحكومة، فالدولة هي هياكل مؤسسات الدولة الدائمة من وزارات وجيش وأمن ومؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية وخدمية، أما الحكومة فهي الجسد الإداري الذي يديرها من أعلى، من أجل إيصال خدماتها للناس على أكمل وجه. أي بأن الدولة دائمة والحكومة مؤقتة، تتغير بتغير رأسها، رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس وزرائها، إما عن طريق الانتخابات أو غيرها. وقد يجمع رئيس الحكومة بين منصبه ومنصب رئيس الدولة وقد لا يجمع بينهما. والدستور أو نظام الحكم، هو الذي يفصل العلاقة بين الدولة والحكومة ويوزع المهام بينهما.
إذاً بما أن الدولة هي جهاز إداري ضخم، متشعب ومتداخل؛ فمن أكبر معوقات أداء الحكومات في عملية إدارتها هي البيروقراطية التي تعيق وصول خدماتها للناس، ومع مضي الوقت تتراكم المشاكل عليها، وتجد نفسها عاجزة عن حلها، وبالتالي تتفاقم أزمتها مع الناس الذين وضعت لخدمتهم، ويحدث ما نسميه انتفاضات أو ثورات عليها، تقوض أهم أساساتها وهو الأمن واهتزاز الثقة بها. ولذلك تم حل هذه الإشكالية، منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، بمشاركة الناس للحكومة في إدارة الدولة، وإيصال خدماتها للناس على أكمل وأسرع وجه، وذلك عن طريق ممثلين لهم منتخبين منهم يعينون في المجالس التشريعية والرقابية، هذا في حال لم تكن الحكومة نفسها منتخبة من قبلهم لإدارة الدولة.
في حال دولتنا وسعي القيادة الرشيدة لتحسين أدائها وإيصال خدماتها للناس على أكمل وأسرع وجه في ظل الإصلاحات المتتالية على أداء الحكومة، يجب الأخذ بالاعتبار تباطؤ تنفيذ القرارات الاستراتيجية التي تصدر من هرم الدولة ورأس الحكومة، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وإنزالها للأرض كواقع يستفيد منها الناس المعنيون بمثل هذه القرارات الحكيمة. وكذلك تباطؤ بتنفيذ توجهات الحكومة الإصلاحية، سواء التي تقرها داخليا أو تلك التي تقرها خارجيا، ضمن المعاهدات الدولية التي تشارك في صياغتها وتوقع عليها، والتي تدخل قانونيا ضمن قوانين وتشريعات البلد.
وهذا التباطؤ ناجم عن البيروقراطية والترهل الإداري لبعض أجهزة الدولة، وغياب التواصل الفعال والدائم والحثيث بينها. حيث لا يستغرب من وجود جهاز حكومي ينفذ القرارات الجديدة وجهاز آخر يتصادم معها، لأنه ما زال ينفذ قرارات قديمة، انتهت بحلول القرارات الجديدة مكانها. كما لا يستغرب من وجود جهازين حكوميين ينفذان نفس المشروع، لنفس الأهداف وبميزانيات مستقلة لكل منهما، لو جمعت كل الجهود بمشروع واحد وصرفت عليه الميزانيتين لأدى الغرض منه على أكمل وأحسن وأسرع وجه، بدل تبديد الجهود والأموال وفي المحصلة تعثر كليهما.
أنا لا أدخل مثل هذه الإشكاليات البيروقراطية بخانة الفساد لا المالي ولا الإداري، ولكن في خانة الترهل البيروقراطي وغياب التواصل الفعال بين مؤسسات وأجهزة الدولة التنفيذية. ومع ذلك فالنتائج الكارثية على الدولة من الفساد المالي والإداري والترهل البيروقراطي واحدة.
هنالك أكثر من خطاب تاريخي لخادم الحرمين الشريفين كل منها يتضمن مشاريع وطنية ودولية وإنسانية، عبر عنها بكل فصاحة ووضوح وصدق ووفاء؛ ولكن الترهل البيروقراطي وانقطاع التواصل والتنسيق بين بعض أجهزة الدولة حال دون بلوغ خيرها للناس في الوقت المناسب أو بالكيفية التي قصدها أو لم تصل إليهم حتى الآن. وفي ذلك أكثر من مصيبة، منها حرمان الناس من مشاريع مليكهم ووالدهم الحنون عبدالله بن عبدالعزيز، وتشكيك المغرضين بالإصلاحات التي يحلم أن يراها خادم الحرمين واقعا على أرض الوطن، والقائمة تطول.
فعلى سبيل المثال، تحدث خادم الحرمين أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة عن حرصه الشديد على اللحمة الوطنية، وشكل مؤسسات لدعمها، منها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، والذي أوصى بالعديد من التوصيات من أجل حفظ وحماية اللحمة الوطنية، ولكن كل ما صدر عنه مجرد وصايا، تبحث عمن يتبناها، من مؤسسات الدولة التشريعية ويحولها إلى أنظمة وقوانين ويحيلها على مؤسسات الدولة التنفيذية لتنفيذها على أرض الواقع. كما تحدث وبصدق منقطع النظير عن حوار الأديان وحوار المذاهب وأسس لها مراكز دولية وإسلامية. نحن نطمح بأن يتلقف مجلس الشورى، حيث هو بمثابة المجلس التشريعي، وأن يسن أنظمة وقوانين تشريعية من مخرجات هذه المراكز الوطنية والإسلامية والدولية، ويطلب تعميمها على مؤسسات الدولة لتصبح أنظمة وقوانين نافذة، يعمل بها، لتعزيز السلم الوطني والسلام العالمي.
ولكن مجلس الشورى، وللأسف الشديد، لم يعودنا على تبني تلك الوصايا وتحويلها إلى أنظمة وتشريعات لحماية السلم والأمن الوطني. ولذلك أقترح إنشاء هيئة وطنية عليا، تكون مهمتها تحويل توصيات خادم الحرمين وولي عهده الأمين، إلى أنظمة وقوانين، يتم عرضها على مجلس الوزراء ومن ثم تعميمها على الوزارات ومؤسسات الدولة المعنية، ومتابعة تطبيقها وبأسرع وقت وعلى أتم وجه ممكن. وتكون مهمة هذه الهيئة الوطنية، مراقبة مؤسسات وأجهزة الدولة في تنفيذ التوصيات والقرارات الإصلاحية العليا والتثبت من تطبيقها، وكذلك التأكد من أن لا تكون الأنظمة القديمة سارية المفعول، والتي بدورها تعيق تنفيذ القرارات الإصلاحية الحديثة. والله والوطن من وراء القصد، وكل يوم وطني والوطن بألف خير وسلام.