قد تختلف الدول في ظروفها التاريخية وأحوالها السياسية، ولكن الشعوب غالباً تثور لنفس الأسباب. ولو راجعنا ثورات التاريخ لوجدنا عوامل مشتركة يشكّل اجتماعها معاً، أو اجتماع بعضها، تفاعلاً كافياً لإشعال الثورة. ويسعنا أن نقول باختصار إنه حيثما وجد شعب فقير، وقومية جريحة، وسلطة مستبدة، وجيش متذمر فإن الثورة تكاد تكون مسألة وقت فقط، ولا يلبث الشعب أن يخوض غمارها مهما بلغ حجم الخوف والقمع، ومهما كان المستقبل ضبابياً وغامضاً. ويمكن تطبيق هذه العوامل المشتركة على أغلب الثورات التي تأثرت سلفاً بالثورة الفرنسية لتجدها متحققة بنسبة كبيرة، فالثورة الفرنسية نفسها لم تندلع إلا بعد أن تحققت كل هذه الأسباب تقريباً، إذ كان الشعب الفرنسي يعاني من الفقر والجوع بعد أن أفرغ لويس السادس عشر خزينة فرنسا بتبرعاته لأمريكا لينتقموا له من الإنجليز الذين هزموا أباه، ثم بالبذخ الذي كان يعيش فيه هو وزوجته النمساوية ماري إنطوانيت، صاحبة العبارة الشهيرة عندما نبا إلى علمها تذمر الشعب من قلة الخبز: لماذا لا يأكلون الكعك؟ (والتي بالمناسبة لم يثبت تاريخياً أنها نطقت بها أبداً، بل كانت من اختراع بروباجاندا الثورة!)

كان الفرنسيون جوعى وفقراء، وكانت السلطة مستبدة وغافلة، وكانت القومية الفرنسية جريحة بعد هزيمتها من الإنجليز في حرب الأعوام السبعة التي استولى خلالها الإنجليز على جزء كبير من الأراضي الفرنسية، وكان المحاربون القدامى الذين خاضوا هذه الحروب يشتكون من قلة التقدير وانقطاع المستحقات. وهكذا اكتمل مربع الثورة، ووجد قادتها شعباً مستعداً للانقياد لهم، فلم يستدع الأمر الكثير من الجهد ليؤلبوا الناس على الحاكم. وسرعان ما تحركت جحافلهم لتدك سجن الباستيل، وتعلق رأس قائده على حربة، وتتجه لقصر فرساي خارج باريس، وتجبر لويس السادس عشر على العودة إلى باريس للوقوف على أحوال الشعب، وتعديل الدستور، ثم لم يلبثوا أن أعدموه بالمقصلة بعد سنوات قليلة، وألحقوا به زوجته بعد ذلك.

وإذا سعينا لمقارنة هذه العوامل مع الثورات التي حدثت لاحقاً وجدناها تتقاطع أحياناً، وتكاد تتطابق غالباً، مع اختلاف المحيط السياسي الاجتماعي العام. فالحال التي كان عليها لويس السادس عشر تتشابه كثيراً مع ما كان عليه شاه إيران الذي أطعم ضيوفه الأجانب في حفل واحد طناً كاملاً من الكافيار الفاخر طهاها لهم أكثر من مائتي طاه فرنسي حضروا من باريس خصيصاً لهذا الحفل الذي كلف الخزينة الإيرانية أكثر من مائة مليون دولار، كان ذلك عام 1971 أثناء الاحتفال بمرور 2500 سنة على نشوء الأمبراطورية الفارسية. حينها كان الشعب الإيراني فقيراً، وقوميته جريحة بسبب استقبال الشاه للجيوش الغربية، بالإضافة إلى إهانات الشاه المستمرة للشعور الديني للشعب. ومرة أخرى عبر التاريخ وجد قادة الثورة شعباً مستعداً للانقياد لهم، فقادوه إلى حيث لا يدري.

في ظل القراءة التاريخية لهذه العوامل نجد أن الذي يبذر بذور الثورة الأولى ليسوا هم من يقود الثورة، بل إنهم على العكس: أعداء الثورة من الحكام المستبدين الذين يعملون خلال سنوات اعتلائهم للسلطة على تجهيز الشعب للثورة من خلال أخطائهم السياسية. كذلك فعل قياصرة روسيا عندما فشلوا في تدبير شؤون الاقتصاد فأدى التضخم إلى إفقار الشعب وتجويعه، ثم جرحوا شعورهم القوميّ بخسائرهم الفادحة في الحرب العالمية الأولى، ثم أساؤوا التواصل مع الجنود والشعب فمنحوا لينين شعباً جاهزاً ليثور به. والخديوية المصرية أيضاً فعلوا ذلك بانصرافهم عن مصالح الشعب، وتأرجح ولاؤهم بين الحلفاء والألمان أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم سكوتهم عن تصرفات الإنجليز في البلاد مما جرح شعور المصريين القوميّ بالإضافة إلى الهزيمة العربية أمام إسرائيل عام 1948. كل الشعوب الأربعة التي يسعها المثال كانت جائعة وفقيرة وتتردى في أحوال مادية سيئة مقارنة بما تعيشه طبقات البلاط من ترف يعاظم من الغل الطبقي، ويسقط مهابة السلطة، ويدفع الناس إلى كراهيتها كراهية تتصاعد تدريجياً في النفوس المهترئة حتى يخرج منهم الثائر المنتظر الذي ينقلب بهم.. ثم ينقلب عليهم!

الفرنسيون لم ينتهوا إلى حياة أفضل بعد ثورتهم مباشرة، بل تطلّبهم الأمر عشرات السنين من الإصلاحات المستمرة حتى وصلوا إلى ما هم عليه الآن، مما يجعلنا نشكك في إمكانية الربط المباشر بين الثورة الفرنسية والواقع الفرنسي اليوم، ولاسيما أن بينهما أحداث تاريخية كبيرة كالحربين العالميتين كان لهما بالتأكيد أثراً كبيراً في تحديد مصير الجمهورية وإعادة تهيئة الشعب الفرنسي للمستقبل. وقد بلغت دول من العالم الأول ما بلغته فرنسا اليوم دون ثورات ولا دماء، وبالتالي فإن ربط الثورة بالتقدم ينقصه الكثير من الإثبات التاريخي المستند على حقائق واضحة، وليس إلى خطب ووعود ثورية وهمية. البلاشفة الذين ثاروا في روسيا أدخلوا الشعب في نفقٍ حديدي مظلم لسبعة عقود عانى أثناءها الشعب من قسوة النظام الشيوعي مثلما عانى من استبداد الحكم القيصريّ. الإيرانيون أيضاً تخلصوا من تاج الشاه ليقعوا في عمامة الفقيه، والكوبيين يفرّون من كاسترو سباحةً نحو شواطئ فلوريدا معرضين أنفسهم لمخاطر الغرق وأسماك القرش.

الثورة بذلك هي حالة هياج هستيري ينتاب الشعوب المقهورة، وبالتأكيد أن الهائج لا يفكر ولا يخطط، وبالتالي لا يصل إلى ما يريد. وبالتأكيد أن حالة العمى والهياج التي يكون عليها الشعب الثائر تمنح الفرصة للمبصرين فقط أن يعتلوا سدة الحكم. وتحت وطأة القهر والظروف السيئة والجراح العميقة، تبدو الثورة مثل نافذة من الأمل يفتحها الثوّار ليقفز منها الشعب دون تفكير، حتى إذا هوى.. تذكّر أن الخطب الثورية لا تمنح أجنحة. وقد يجادل البعض أن ثورات عديدة قادت بالفعل إلى مصائر شعبية أفضل، ولكن هذا الجدل ينقصه الكثير من دراسة الاحتمالات الأخرى التي كانت مطروحة على الطاولة السياسية والاجتماعية والثقافية وما إذا كانت ستؤدي إلى نتائج أفضل بدماء أقل. والواقع يسجل أيضاً نجاحات كثيرة لمشاريع الإصلاح السلمي الدؤوب، والتقدم الدستوري الهادئ، والضغط المدنيّ المدروس، والحوار المفتوح بين أطياف الشعب وقياداته السياسية. فالحضارة تأتي من العمل، ولا تندلع من الفوضى.