كانت لدى إسرائيل فرصة تاريخية لتمُدّ عمرها قليلا، عندما كانت المنظمة الفلسطينية تلاحقهم لأجل توقيع تفاهمات نهائية لإغلاق الملفات العالقة بينهما. إلا أن الغرور ومحاولة تطويع ظروف الواقع لأجل الأيديولوجيات الخرافية لديهم جعلتهم يفوِّتون تلك الفرصة التي لن تتكرر إطلاقا. فكثير من الحلول التي كان يطرحها الفلسطينيون آنذاك، لم يعد يجرؤ مسؤولٌ فلسطيني حتى على البوح بها الآن، فضلا عن التوقيع عليها، وهذا بفضل دخول صوت الشعوب على الخط بعد الثورات العربية.
إن أيّ مراقب للكتابات في الصحافة الإسرائيلية، وكذلك تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، لَيَجد بوضوح مدى القلق والارتباك لديهم، جرّاء تسارع التطورات في المنطقة العربية. وأصبح الهاجس الأكبر لديهم هو ليس أمن إسرائيل فقط، بل توسع ليكون وجود إسرائيل أو عدمه. وهذا ظاهر أيضا في الدراسات الدورية السنوية لديهم، وفي استطلاعات الرأي بين الإسرائيليين التي تنشر بين فترة وأخرى. ومن أبرز المفكرين الإسرائيليين الذين تنبؤوا بقرب زوال إسرائيل، وصرح بذلك بوضوح، هو إبراهام بورغ رئيس الكنيست سابقا، وهناك الكثير غيره. كما تسرّبت دراسة لوكالة الاستخبارات الأميركية - لا أدري عن مدى صحة نسبتها - توصّلت إلى أن زوال إسرائيل أمر حتميّ خلال الفترة القادمة.
وإذا تأمّلنا في وضع إسرائيل في الحقيقة، وجدنا أنها كيان غريب ومنعزل في المنطقة، مثل المادة الغريبة على الجسم عندما يُحاول أن يلفظها البطن، وضاعف هذه المشكلةَ معضلةُ العقل الإسرائيلي المغرور، الذي يستعلي على الاندماج في محيطه، بل ويحاول إذلال وتطويع ذلك المحيط بدلا من الاندماج وتخفيف العزلة عليه. ولذلك، يمكن القول: إن غرور وتعجرف إسرائيل هو وقودُ أعدائها، وكما يُقال دائما: إن الغرور يقتل صاحبه، ولولا أنبوب التنفّس الصناعي الذي تمدها به القوى الغربية لتوقف النبض واختفت إسرائيل في اليوم التالي. ولذلك، ومع تضاؤل النفوذ الأميركي والغربي في العالم عموما، وفي المنطقة العربية خصوصا، بعد الربيع العربي وبعد المشاكل الاقتصادية لدى الغرب، لا شك أن إسرائيل تأثرت كثيرا، وأعتقد أننا سنرى مدى هذا التأثير في المنظور القريب أو المتوسط. خاصة مع انفلاق عدد من القوى العالمية المنافسة للنفوذ الغربي، وأصبحنا نرى تصاعد تلك القوى بشكل تدريجي وملحوظ، في الوقت الذي نرى فيه تضاؤل النفوذ الغربي التدريجي، خصوصا بعد المشاكل الاقتصادية الكبيرة التي يعانون منها.
يعلم خبراء وعلماء إسرائيل أن دولتهم لا تملك مقومات دولة مستقرة على المدى البعيد، وربما المتوسط، وأن شعب إسرائيل في الحقيقة هو شعب غير مندمج مع بعضه أصلا، فضلا عن أن يندمج مع محيطه، والكثير منهم لا يستطيع التواصل مع بعضهم البعض بسبب اختلاف لغاتهم الأصلية وثقافاتهم. فقد اجتمع ذلك الشعب من شتى أصقاع الأرض، باختلاف ثقافاتهم وطوائفهم الدينية اليهودية ولغاتهم وألوانهم، ليكونوا في تلك البقعة الصغيرة. كما أن مما يزيد القلق لديهم، هو أن نسبة الإسرائيليين الذين يحملون جنسية أخرى كبيرةٌ جدا، وهذا يجعل الطريق مفتوحا لديهم للهجرة في أي وقت، مما يُضعف الانتماء الوطني لدولة إسرائيل.
وقبل فترة كتبت مجلة التايمز تقريرا مطوّلا عن انتشار وتزايد حركات التطرّف الديني اليهودي داخل إسرائيل، وتوقعت الدراسة أن يصبح لهذه الحركات نفوذ كبير في المستقبل القريب مع تزايد أتباع تلك الطوائف وطبيعة نسبة الإنجاب المرتفعة لديهم. فضلا عن أن عددا من الأحزاب الكبيرة الحالية في إسرائيل تحمل أفكارا متطرفة حتى في نظر الغرب، فما هو حال تلك الحركات المتطرفة يا تُرى؟
إن رفض إسرائيل لحسم الخلاف مع الفلسطينيين في المفاوضات السابقة أفقدهم فرصة تاريخية سيدفعون ثمنها الباهظ في السنوات القليلة القادمة، والله أعلم. فلو قرّرت إسرائيلُ التفاوضَ اليوم مع العرب، فإن تفاوضها لن يكون مع بعض الحكومات، بل ستتفاوض مع الشعوب، ولن يملك السياسي أن يوقّع لإسرائيل على أي شيء حتى لو أراد ذلك. فإسرائيل اليوم تواجه الشعوب وليس الحكومات، وهذا بلا شك يُعقّد الكثير من المسائل التي كان بالإمكان حلّها في الماضي عندما كانت الشعوب مغيّبة.
تعلم إسرائيل جيدا أن الربيع العربي، هو أول مسمار في نعشها، وأن تطور وقوة الدول المحيطة بها يهدد وجودها، ولذلك يجب أن تكون تلك الدول على درجة كبيرة من الوعي والإدراك السياسي، وألا تنزلق في صراع عسكري مع إسرائيل مهما كان المبرر، نظرا لانعدام التوازن العسكري بين الجانبين. وبلا شك أن حداثة تجربة الأحزاب السياسية في دول الربيع العربي مثار قلق لدى عدد كبير من المراقبين السياسيين، خصوصا مع اختلاط الأيديولوجيات لدى بعض تلك الأحزاب السياسة بشكل غير متوازن. يُضاف إلى ذلك ضعف الكوادر والبنى التحتية الفكرية والسياسية لدى تلك الأحزاب خصوصا، وفي الدول العربية عموما، وارتفاع نسب الأمية ونقص الثقافة السياسية بشكل عام.
هذه الرؤى والأفكار تتحدث في ظل الوقائع الحالية، ولا ندري ماذا يُخفي لنا المستقبل من أحداث. فهل سنشهد يوماً لا نرى فيه إسرائيل على الخريطة فعلاً؟!