أشرت في المقال السابق إلى أن المملكة وإيران تمثلان استثناء بين دول العالم الإسلامي من حيث وجود هيئات دينية رسمية تفرض على الناس أشكالا محددة للملابس والممارسات الدينية، ومن أهمها إلزام النساء بأنواع من اللباس توصف بأنها الحجاب الإسلامي الصحيح، وتدعي أن هدفها صون الفضيلة.

غير أن هذه الأنواع من القسر صارت مألوفة في السنوات القليلة الماضية في بعض البلدان الإسلامية المضطربة كأفغانستان في عهد طالبان، وغزة والعراق والصومال الآن. ويكفي عرض الحال في البلدين الأخيرين للتمثيل.

فقد أخذت بعض الهيئات والأحزاب الدينية والمنظمات الحركية "الإسلامية"، بعد سقوط النظام العراقي السابق، تفرض ما تراه صحيحا من حيث لباس المرأة والممارسات الدينية. وتتساوى في ذلك الهيئات والحركات والأحزاب السنية منها والشيعية.

ويعرف المتابعون للشأن العراقي بعد الاحتلال الأمريكي ما حدث في مدينة الفلوجة السنية. فقد استولت عليها بعض المنظمات الحركية بذريعة مقاومة الاحتلال. لكنها تجاوزت ذلك إلى التدخل في شؤون الناس اليومية. إذ فرضت على النساء ارتداء ما تراه حجابا إسلاميا، ومنعت حلق اللحى، وسماع الموسيقى والأغاني، ومشاهدة السينما، وغير ذلك من أنواع الترفيه.

وربما كانت تلك الممارسات العامل الأبرز الذي أدى إلى نفور السكان من تلك الحركات سريعا وتخليهم عن حمايتها ضد الهجوم الأمريكي الوحشي الجارف الذي قضى على نفوذها في المدينة وطردها منها مهزومة شر هزيمة. ومن البين أن عدم التفاف سكان المدينة حول تلك الحركات كان رد فعل على القسوة التي كانت تفرض بها ما تراه على الناس من ممارسات دينية، وهو ما يشبه نفور بعض الناس في المملكة وإيران من الطرق الشبيهة التي تستخدمها بعض الهيئات الدينية الرسمية فيهما.

أما على الجانب الشيعي فقد هب بعض الناشطين الشباب في الجامعات العراقية لإلزام الطالبات بارتداء ما يرونه حجابا إسلاميا، وفصلوا الطلاب عن الطالبات. وشاع توفير اللحى الذي ربما كان استجابة لضغوط أولئك الناشطين. يضاف إلى ذلك اختفاء كثير من المظاهر المدنية التي كانت شائعة مقبولة في العهد السابق بسبب هذا القسر. وكان من أهم الشوارع الرئيسة التي راحت ضحية لتلك الموجة من "التديين" شارع الرشيد المشهور في بغداد.

وعملت الأحزاب السياسية االدينية الشيعية على "تديين" الناس، وكان الهدف من الطرق التي اتبعتها في ذلك تجنيد الأتباع وتكثيرهم. ومن أهم تلك الطرق تشجيع الممارسات الدينية الشعبية بشكل مفرط. ويوجد أوفى وصف لاستخدام تلك الطرق التي تتمثل في "زج النَّاس بمجالس بكاء، ومواكب لطم متواصلـة" (الاتحـاد الإماراتيـة،

9 /8 /1431هـ) في ما كان يكتبه الدكتور رشيد الخيُّون (الكاتب العراقي المعروف) بأسلوبه الرائق المكتنز بالمعلومات التوثيقية في مقالات كثيرة كانت تنشرها صحيفة الشرق الأوسط، وتنشرها الآن "الاتحاد الإماراتية".

ومن الواضح أن غياب سلطة حكومية قوية في العراق الآن أسهم في الحد من التغول الصارم على حريات الناس في ما يلبسونه خاصة، وفي ما يمارسونه من ممارسات دينية عموما. لكن هناك ما يمكن أن يكون نواة لمثل هذا المشروع في ما قاله خطيب الجمعة في كربلاء يوم الجمعة الماضي. فقد أشار إلى أن هناك خمس مدن "مقدسة" في العراق، منها كربلاء والنجف وسامراء. وأوصى مستمعيه بأنه يجب أن تصان تلك المدن "المقدسة" عن بعض المظاهر التي تشوه "قدسيتها"، كما يقول. وذكر من تلك المظاهر عرض ملابس النساء في واجهات المحال التجارية، وبيع أشرطة الأغاني وأسطوانات الفيديو السينمائية، وغير ذلك.

ومن حسن الحظ أن الخطيب لم يوص باستخدام القوة لمنع تلك المظاهر، والخوف أن يكون ما قاله خطوة تمهيدية يمكن أن تستغلها الأحزاب الدينية لفرض سلطاتها وتأكيد حضورها في المجال العام هناك.

أما الصومال فقد تعرض للتشرذم منذ أكثر من عقدين. ونشأ عن ذلك سلطات متعددة يحاول كل منها السيطرة على بعض الأجزاء منه. وصار أخيرا نهبا لبعض المنظمات الحركية التي اتخذت الإسلام شعارا لبسط نفوذها على المناطق التي تحاول السيطرة عليها.

ومن شواهد سيطرة الهيئات والجماعات الدينية ما أوردته صحيفة الشرق الأوسط (22 /6 /2010م) من أن "الحزب الإسلامي المعارض الذي يتزعمه الشيخ حسن طاهر أويس أصدر "أوامر جديدة تتعلق بإطلاق اللحى وقص الشوارب، وأعطى الحزب البالغين مهلة ثلاثين يوما لتنفيذ هذه الأوامر". وفي مؤتمر صحفي عقده الشيخ حاشي فارح، مسؤول إقليم العاصمة في الحزب الإسلامي، دعا جميع الرجال إلى إطلاق لحاهم وقص الشوارب. وأضاف "إن على الجميع الالتزام بهذه الأوامر الشرعية، ومهلة ثلاثين يوما كافية لإطلاق اللحى، ولن يسمح لأي من الرجال البالغين حلق شواربهم بعد المهلة". وأضاف حاشي: "لا نسمح بإطلاق اللحى والشوارب معا، كما لا نسمح بحلقهما معا، بل عليهم إطلاق اللحى وقص الشوارب"!

وتابع معلم حاشي قائلا: "كنا قد أمرنا النساء بارتداء الحجاب الشرعي، والتزمن بذلك بنسبة 99%، وعلى الرجال أن يفعلوا مثل ذلك".

"وذكر معلم حاشي أن هذه الأوامر جزء من خطة لتطبيق الشريعة الإسلامية على مظاهر الحياة العامة في الصومال، وليست هذه الأوامر لفرض إطلاق اللحى وقص الشوارب الأولى من نوعها في الصومال، فقد كانت سلطات حركة الشباب المجاهدين في مناطق جوبا بجنوب البلاد أول من أصدر أوامر من هذا النوع في ديسمبر من السنة الماضية، وسبق أيضا أن فرض الحزب الإسلامي وكذلك حركة الشباب المجاهدين في المناطق التي يسيطران عليها أوامر صارمة تتعلق بالالتزام بمظاهر سلوك معينة، ومن بينها تقصير البنطلون، وأوامر للنساء بارتداء الحجاب الثقيل الذي يعرف محليا بالجلابيب، وكذلك منع بث الأغاني والموسيقى، إضافة إلى إغلاق دور السينما وحظر مشاهدة مباريات كأس العالم (الأخيرة) بحجة أنها تضيع الوقت. كما فرضا إغلاق المحلات التجارية أثناء تأدية صلاة الجماعة، والفصل بين الجنسين في الحافلات العمومية، وينتشر مسلحون من الفصائل المسلحة يطلق عليهم "جيش الحسبة" لتعقب من يخالف هذه الأوامر ومعاقبته".

إن ما تمارسه بعض الأحزاب والهيئات الدينية في العراق والصومال لا يعدو أن يكون تدخلا في شؤون الناس الدينية هدفه التحكم فيهم وإخضاعهم للسلطة المسيطرة. وكان الأحرى بالعراقيين والصوماليين وغيرهم أن يعتبروا بالنتائج غير السارة للتدخل في حياة الناس التي يأتي في مقدمتها النفاق والتحايل. إن هذه الوسائل القسرية ليست بديلا صالحا للتربية التي تعد واجبا أسريا في المقام الأول، وشأنا خاصا يجب أن يكون بعيدا عن تدخل السلطة.