متى كانت آخر مرة شاهدت فيها بقالا سعوديا؟ أو عامل محطة بنزين سعوديا؟ على الأرجح لن ترى مثل هذا العامل السعودي موجودا إلا إذا كان هو نفسه صاحب محل البقالة أو أحد أبنائه. محلات البقالة نموذج ومثال مثير يكشف وجها من وجوه مشكلتنا الاقتصادية. على امتداد المملكة تنتشر مثل هذه المحلات الصغيرة وفي الأغلب تكون هذه المحلات إما ملكا لمواطن يضع فيها عاملا أو اثنين من العمالة الرخيصة أو أن مثل هذه المحلات الصغيرة تكون مملوكة لأجنبي يتستر خلف اسم مواطن يملك المؤسسة قانونيا ويحصل على مبلغ شهري مقطوع من العامل (المالك الحقيقي للتجارة) مقابل استخدام اسمه في إصدار الرخصة القانونية للمحل. من جهة أخرى رغم أن محلات البقالة صغيرة ومنتشرة بشكل كبير فالسؤال هو كم يكلف إنشاء مثل هذا المحل؟ هل يمكن لشاب سعودي أن ينشئ محله الخاص؟ البنوك لا تدعم أي شاب بقرض لمثل هذا العمل. أغلب أصحاب محلات البقالة إما ورثوها من آبائهم، أو أجانب تحصلوا على المال لإنشائها، أو رجال كبار السن استثمروا بعض ما جمعوه فيها.

الناتج هو أن قطاع التجزئة هذا (مثال محلات البقالة أو محطات البنزين أو غيرها من مجالات العمل الكثيرة) لم تعد مجالا يمكن للشباب السعودي العمل فيه، لا الراتب سيكون مجزيا على الإطلاق لمن يمكن توظيفه فيه، ولا الوضع الاقتصادي يساعد، فتكلفة إنشاء المحل تفوق قدرة الشاب، والنظام المالي لا يدعم إلا من هو مؤهل أساسا للحصول على القروض (وهذا يستثني قطاعا كبيرا جدا من شبابنا). ثم يأتي السؤال: كم عدد العمال الأجانب الذين يعملون في محلات البقالة، ومحطات البنزين مثلا على امتداد المملكة بكبرها؟ على الأغلب سيكون العدد كبيرا، فهل نحن فعلا بحاجة لمثل هذه العمالة؟ هل تملك مثل هذه العمالة أي مؤهلات باستثناء كونها عمالة رخيصة جدا؟

الآن لتتخيل معي أيها القارئ الكريم صدور قرار يقضي بأن تكون كل العمالة العاملة في محلات البقالة أو محطات البنزين سعودية، ماذا سيحدث؟ على الأغلب إن قرار سعودة مثل هذا سيفشل فشلا ذريعا يضاهي فشل منتخبنا الوطني لكرة القدم، فمن جهة لن يقبل أي سعودي بالعمل فيها لتدني الراتب (هل يساوي كل هذا الجهد المبذول مبلغ ألف ريال هي حجم الفرق بين الحد الأدنى للرواتب وبين إعانة حافز لمن يستلقي في بيته؟) وفي المقابل فإن مثل هذه الأعمال لن تكون مربحة لمن سيقوم بدفع راتب مرتفع لموظفيه فيها، مثل هذه الأعمال ليست أعمالا استثمارية في الأساس، في كل دول العالم صاحب محل البقالة هو من يعمل فيها هو وعائلته وهي مصدر إعالتهم، وليست استثمارا يقوم به موظف سابق يضع عاملا آسيويا عليها ليجني هو الربح من بيته، الفكرة المطروحة هنا ليست مجرد قرار سعودة وتوظيف، وإنما إعادة هيكلة وبنية قانونية مبتكرة وجديدة. الآن لنتخيل أن المملكة قررت إطلاق برنامج لجعل جميع العاملين في كل محلات البقالة ومحطات البنزين سعوديين بالكامل، ماذا سيحدث؟ هناك احتمالان:

الاحتمال الأول هو أن ثقافة الشركات ستستحوذ على القطاع فتتآكل كل الاستثمارات الصغيرة مقابل شركات سعودية تبدأ بتملك هذا القطاع وتعيد هيكلته بما يسمح بتوظيف السعودي ودفع الراتب المقابل له، مثلا قد تصبح محطات البنزين لدينا كما في الغرب ذاتية الخدمة دون الحاجة لعامل يقف على مضخة البنزين، وقد نجد في كل محطة شابا سعوديا أو اثنين خلف مكتب زجاجي مكيف الهواء مهمتهم تحصيل الأموال والإشراف مقابل راتب أعلى بكثير مما يحصل عليه عامل المضخة الآسيوي، قد ينتج عن هذا السيناريو توسع لسطوة الشركات الكبرى ورأس المال على هذه الأعمال ولكن قد يحدث في المقابل توسع كبير في توظيف السعوديين.

الاحتمال الثاني هو أن خروج المنافسة الأجنبية من القطاع قد تفتح الباب للسعوديين، فيبدأ الشباب بالنزول والاستفادة من الفرصة كون مثل هذه القطاعات ضرورية في الاقتصاد، إغلاق عدد من المحلات نتيجة القرار قد يحفز شبابا سعوديين على افتتاح بقالتهم والعمل فيها بأنفسهم داخل الأحياء، وهنا يتحولون لتجار صغار وأصحاب محلات عاملين فيها لا مجرد سعوديين مالكين لديهم عمال أجانب للعمل لديهم، ففي النهاية عندما لا يجد صاحب المحل عمالة أجنبية رخيصة للعمل لديه فهو أمام أحد قرارين: إما إغلاق محله أو العمل فيه بنفسه، وفي النهاية سيكون المواطن هو المستفيد كون هذا الأمر يفتح مجالا للمنافسة بين مواطنين وليس بين مواطن وعامل أجنبي رخيص التكلفة، ومن سيقرر من الشباب أن يصبح صاحب محل بقالة يعمل فيها سيجني على الأغلب نتيجة عمله أكثر مما سيجنيه بالحد الأدنى للرواتب أو إعانة حافز.

الآن لنتخيل (بما أن التخيل متاح ولا حدود له) أن الدولة قررت أن تحمي هذا القطاع من سطوة الشركات الكبرى ورجال الأعمال الكبار فكان مثل هذا القرار مصحوبا بقرارات تقضي بأن تقوم الدولة بتوفير قروض ميسرة أو محلات للراغبين من الشباب شريطة أن يعملوا فيها بأنفسهم. ثم لنتوسع في التخيل قليلا ونفترض أن هذا القرار كان مصحوبا باشتراط أن يشتري أصحاب البقالات السعوديون بضاعتهم من موزعين سعوديين فقط (مؤسسات وشركات توزيع سعودية يعمل فيها سعوديون بالكامل). على الأغلب نحن أمام ذات الاحتمالين وقد نجد بغياب المنافسة شبابا سعوديين أصحاب شركات نقل صغيرة يعملون على سياراتهم بأنفسهم لنقل البضائع إلى تلك البقالات، ثم كان القرار مصحوبا باشتراط أن تقوم تلك البقالات بالتعامل مع مكاتب محاسبة سعودية بالكامل، على الأغلب سيقوم بعض الشباب السعودي بافتتاح مكاتب محاسبة صغيرة لخدمة هذا القطاع الذي لا ينافسهم فيه أحد، وهكذا نتوسع في التخيل قليلا قليلا. ماذا سيحدث؟

الدرس المستفاد من أفكار ودراسات هرناندو دي سوتو (مقال الكاتب في "الوطن": أفكار من خارج الكتيب التقليدي بتاريخ 14/ 10/ 2012) هو أن البنية التشريعية والقانونية هي الأساس لنجاح النظام الرأسمالي، وهي الأساس لإطلاق تنمية اقتصادية سليمة، ومن هذا المنطلق فإن التعامل مع تحدياتنا الاقتصادية بالبحث عن تشريعات وقوانين خارج الصندوق للتعامل مع مشكلاتنا قد لا يكون أمرا سيئا. نموذجنا الاقتصادي رأسمالي، ولنا أن نتساءل عن نجاح نموذجنا الاقتصادي اليوم ونحن نملك رأس مال ميتا قوامه 1.5 مليون مستفيد تقريبا من برنامج حافز، هذا عدا عن مجموعة كبيرة من المواطنين تعمل في القطاع الخاص بأجر متدن (محافظ المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية صرح أن 1.2 مليون مواطن يعملون في القطاع الخاص براتب 1500 ريال فقط). لنا الحق في التساؤل أين ضاعت منا البوصلة في الطريق؟ ولنا أن نتخيل في المقابل حلولا أخرى مختلفة تماما عن كل ما يطرحه المسؤولون.