تحيلنا قضية عضل الطبيبة السعودية البالغة من العمر 42 عاما وأخواتها الأربع إلى أمر بالغ الأهمية؛ وهو تحرير مفهوم الولاية على المرأة، وتجليته مما شابه من إرث المنظومة الفقهية الخاضعة لأنساق عصرها ومعطياته الثقافية والاجتماعية! كفل الإسلام للمرأة حقها بعدم قسرها على زوج لا ترضاه، وعدم عضلها عن الزواج بمن هو مشهود له بالتقوى والصلاح. وأقر الإسلام أن تعرض المرأة نفسها على رجل تود الارتباط به، كما فعلت ليلى بنت الحطيم عندما عرضت نفسها على الرسول الكريم، ومن قبلها أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. ولم تكن خطبة المرأة للرجل مدعاة للشعور بالإهانة، كون المرأة التي تفعل ذلك

ـ عادة ـ قوية الشخصية وشديدة الاعتزاز بنفسها، أو ذات مكانة اجتماعية عالية أو تتميز بالثراء أو الجمال، فلا يضيرها معنويا الرفض فيما لو حدث. وفي القرآن الكريم ليس هناك ذكر للولي في الآيات الخاصة بالزواج والطلاق، فهي تخاطب الرجل تارة والمرأة تارة أخرى مباشرة. وجاءت فتاة للرسول صلى الله عليه وسلم كارهة لمن زوجها به أبوها، فجعل الرسول الكريم أمرها بيدها قائلا "اذهبي فلا نكاح لك، أنكحي من شئت" فقالت: "يا رسول الله إني أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من أمور بناتهم شيء". ومن هذا المنطلق أجاز الفقه الحنفي تزويج المرأة الراشدة لنفسها دون الحاجة إلى ولي معتمدا على تفسيره لأدلة من القرآن والسنة، بينما لم تجز باقي المدارس الفقهية تزويج المرأة لنفسها ولهم حججهم أيضا المغايرة للفهم الحنفي للنصوص.

جاء الإسلام ليثور الناس على ما ألفوا عليه أقوامهم، وليخرجهم من أسر الأعراف إلى رحاب تعاليم الدين التي تؤسس لقيم جوهرية كبرى كالحرية والعدالة والمساواة. وفيما كانت المعايير الاجتماعية التي تحكم علاقات الناس ببعضهم ـ خاصة في قضية المصاهرة ـ تقوم على أسس العصبية والجاه والمال واحتقار أصحاب الحرف، جاء الإسلام لينبذ قيم العصبية (المنتنة) ويحدد معاييره الخاصة فالتقوى والصلاح هما الفيصل. ومن هذا المنطلق قام الرسول الكريم باجتثاث العصبية ـ عمليا ـ، فزوج زينب بنت جحش الأسدية من مولاه زيد بن حارثة وكان عبدا أعتقته السيدة خديجة رضي الله عنها، وخطب فاطمة بنت قيس رجال من أهل الحسب والنسب فاستشارت الرسول الكريم فأشار عليها بالزواج من أسامة ابن مولاه زيد ففعلت. وتزوج بلال بن رباح رضي الله عنه من أخت الصحابي عبدالرحمن بن عوف القرشي. ويقول سيدنا علي كرم الله وجهه عندما سئل عن الكفاءة: (الناس بعضهم أكفاء لبعض، عربيهم وعجميهم، قرشيهم وهاشميهم إذا أسلموا وآمنوا).

هكذا حرر الإسلام الناس وأسس لمعايير تقدمية في قضية المساواة والمفاضلة بين الناس، بينما أعادهم المفهوم الفقهي (البشري) إلى أسر الأعراف الاجتماعية! فالمنظومة الفقهية تضع معايير أخرى إلى جانب الصلاح ومنها النسب؛ فالعرب ـ في الفقه ـ أكفاء لبعضهم البعض إلا قريش فهم أكفاء فيما بينهم.. في ارتجاع عكسي إلى الجاهلية الأولى!