ثمة مشاهد مؤلمة تعلق بذاكرة الإنسان بتفاصيلها الدقيقة رغم مرور السنين، أحدها كان مشاهدتي لطفل سعودي في الرابعة من عمره، راقداً على السرير الأبيض مصاباً بشلل رباعي نتيجة لإلقاء والده له من النافذة في غياب أمه الإندونيسية التي "سفرها" أبوه المزواج بعد أن انتهى غرضه منها، تماماً كما هي الحال مع بقية الزوجات وأطفالهن. لم ينقذه إلا أخته غير الشقيقة وهي بدورها في سن المراهقة، ولعلنا نتخيل المخاطر التي مرت بها فتاة يافعة تحمل طفلاً مشلولاً وتركب سيارة ليموزين لتصل إلى المستشفى. كنت وقتها أعمل صحفية متدربة في صحيفة عرب نيوز التي نشرت القصة آنذاك، كما كتبت مقالاً لـ"الوطن" بعنوان (أحباب الله.. لكم الله – نشر بتاريخ 11 جمادى الآخرة 1425). وسمعت بأن والده قد أوقف للتحقيق، خاصة أنه كانت ثمة أخبار متداولة بأنه يشتبه في وفاة طفل أو أكثر له في ظروف غير معروفة. سافرت بعدها ولم أعلم ماذا حل بهما، لكنني لن أنسى أبداً وجه الصغير الملائكي البريء ولا جسده النحيل وحيداً هناك.
وإذا كنت لم أعرف ماذا حل بذلك الطفل فإنني أعرف شيئاً عما حل بغيره، فخلال السنوات التالية سأكتب عن غفران وشرعاء ورهف (الوحيدة التي نجت على ما يبدو)، وغصون (الوحيدة التي تم الاقتصاص من أبيها وزوجته)، وسلسلة طويلة من ضحايا العنف الأسري من الأطفال. أحد هذه المقالات كان بعنوان: (نشر رواية جريمة لا تغتفر.. وقتل طفلة أمرٌ فيه نظر - نشر بتاريخ 21 ربيع الأول 1427هـ)، وبالتالي أعتقد أنه يمكن اعتبار الإساءة للصغار ظاهرة لا بد من معالجتها بدلاً من الإصرار على كونها حوادث فردية.
لمى عصفورة جديدة، لا تختلف عن شقيقاتها من طيور الجنة إلا في الاسم وربما في بعض التفصيلات الدقيقة، مثل كون والدها داعية مشهورا وظهر في برامج تلفزيونية متحدثاً عن الرحمة! وهذه الجزئية توشك أن تحول القضية من عنف أسري وانتهاك لحقوق الطفولة وإزهاق روح بريئة وإفساد محرم في الأرض إلى قضية يتصارع حولها التياران، المتشدد والليبرالي، ولهؤلاء نقول: عيب! ما أقبح أن نرقص حول جثث القتلى، وما أبشع أن يكون نخب الانتصار من دماء الصغار. فإن كانت هناك فائدة يمكن الاستفادة منها في هذه الجزئية فهي عدم الانخداع بالمنظر، وأيضاً عدم امتهان لقب داعية بحيث يُمنح لشخص بلا علم شرعي ولا نهج تربوي، وكل مؤهلاته: مفحط سابق أو مدمن تائب، فيتصدرون المجالس ويخطبون في المدارس.
النقطة الأهم التي يجدر التركيز عليها هي: لماذا يتواصل هذا المسلسل المرعب؟ ثماني سنوات كاملة تفصل بين مقالين عن نفس القضية، ولم يتغير شيء. سيتحدث البعض عن موضوع الحضانة، وأنه لا ينبغي أن تمنح للأب تلقائياً، بل تدرس كل حالة بشكل منفصل، وغالباً يجب منحها للأم قبل زواجها، وبعد الزواج هناك الجدات وغيرهن ممن نص عليهن الشرع، خاصة حين يكون الأب غير مؤهل ولا كفء. وهذا لا شك من الأمور المطلوبة، لكن من قال إن كل الضحايا كانوا في حضانة الأب قسراً؟ فمسؤوليتنا إذاً إيجاد نظام يحمي الطفولة بشكل عام، بغض النظر عن أين يعيش الطفل. قد يشمل هذا النظام تخصيص أرقام حماية وتعليمها للأطفال، وتأهيل مشرفات المدارس الاجتماعيات للكشف عن هذه القضايا والإبلاغ عنها للجهات الرسمية، وعمل زيارات دورية من قبل مندوبين ومندوبات من وزارة الشؤون الاجتماعية للأسر التي سبق وتم الإبلاغ ضد أحد أفرادها بأنه يمارس العنف الأسري سواء على الأطفال والمراهقين أو حتى الكبار، لأن من لا يرتدع عن ضرب زوجته فلن يتورع عن تعذيب أطفاله. وأن يترافق ذلك مع حملة إعلامية ضخمة لا تقل عن حملات مكافحة الإرهاب والمخدرات، فإرهاب الأسرة لا يقل بشاعة عن إرهاب المجتمع، بل إن الكثير ممن انخرطوا في سلك الإرهاب أتوا من أسر ليس فيها تفاهم ولا حب رغم البحبوحة المادية.
يجب أن يدرك الآباء أن جريمة قتل الصغير لا تقل عن جريمة قتل الكبير، بل تفوقها بشاعة، لأنها تجاه طفل أعزل مستضعف، وأن الحد سيقام فيما لو ثبتت القضية بالأدلة القاطعة ودون أحقية التنازل، وأن بعض الأفكار الفقهية التي يتم الترويج لها مثل عدم أخذ الأصل بالفرع، والتي يظن الآباء أنها تقدم لهم حصانة ليقتلوا أطفالهم، لا تتفق في هذه الحالات الدامية من القتل والتعذيب للصغار مع مقاصد الشريعة العليا التي جاءت لحفظ الضرورات الخمس ومنها النفس. ومع تحريم قتل الأطفال ووأد البنات والإجهاض، فجزء من المشكلة هو تفشي هذا الفكر الضال.
قبل أشهر قليلة هزت مجتمعنا قضية الطفلة تالا التي ذبحتها الخادمة الإندونيسية، وثار الناس وصبوا جام غضبهم على الخادمات وأنهن سبب كل بلاء. وتطرف البعض وطالب بتسفيرهن جميعاً، وتم تداول الموضوع بشكل كبير عبر أجهزة الهواتف المحمولة، وتخللته الكثير من رسائل الكراهية والتحقير والمبالغة، في حين لا تبدو الأصوات بتلك القوة مع قضية لمى رغم تشابه عمر الضحايا وبشاعة طريقة القتل! تتساءلون لماذا؟
السبب بسيط، لأنه من السهل أن نحمل الجرم للآخر (الغريب.. الأجنبي.. الذي لا يحمل ملامحنا.. الفقير الطامع بثرواتنا)، لأن الحل سيكون في إغلاق الباب دونه. أما في حالة لمى فنحن أمام واحد منا، جريمة تجبرنا على أن ننظر في المرآة ونشاهد ذلك الجزء القبيح من صورة مجتمعنا، والذي نحاول أن ننكره دون أن نعالجه، سائلين الله أن يذهب المرض من تلقاء نفسه دون ـ حتى ـ أن نزور الطبيب ناهيك عن أن نتناول الدواء.
قضية لمى وأخواتها كان يجب أن تهزنا، لأنها قضية قتل ممن يفترض أنه يحمي ويرعى ويربي.. قضية تتنافى مع فطرة البشر في حب الولد وقوة روابط الدم.. لكن ذلك لم يحدث وهذا وحده مشكلة كبرى.