-1-

قلنا في مقالنا السابق (أين العيب فينا أم في الآخرين؟) إن الأسباب السياسية وحدها – كما يظن الدهماء – ليست هي العائق أمام تقدم الاستحقاقات الديمقراطية في العالم العربي. بل تكاد الأسباب الاجتماعية أن تكون هي العائق الرئيسي في تأخر وصول الاستحقاقات الديمقراطية إلى العالم العربي. وقلنا كذلك، إن العوائق العربية العامة، أمام الاستحقاقات الديمقراطية العربية، تعود إلى عدم احترام قيمة الإنسان العربي، وإلى تخلّف الفـرد العربي، وإلى عدم إمكانية الإصلاح الاجتماعي باتباع الطرق الديمقراطية، وإلى غياب التعليم وغياب المؤسسات الدستورية، واستمرار الصراعات الطائفية والقبلية والدينية، وإلى اختفاء قوة الطبقة الوسطى التي تقود دائماً حركات الإصلاح، وإلى عدم تزامن التطور الاجتماعي مع التطور الاقتصادي، وإلى تأصيل الروح الطائفية والعشائرية بين الأحزاب السياسية، وإلى انتشار التخلف الحضاري في المجتمع العربي، وإلى حصار الإنسان العربي في ثالوث متكلِّس يتمثّل في أيديولوجية العائلية والمؤسسة الدينية والدولة المتخلفة، وإلى غياب السياسة من فكر العامة. واستعرضنا بعض الأسباب العلمية والتاريخية، التي من شأنها أن تُعيق الديمقراطية، ومنها: أن التجارب البرلمانية في العالم العربي ذات العمر القصير جداً، لا تصلح للحكم على فشل أو نجاح الديمقراطية الليبرالية، فيما لو علمنا أن أوروبا قضت زمناً طويلاً مع هذه التجارب، حتى استطاعت أن تُرسي القاعدة الديمقراطية الحقَّة. ومنها ضعف الطبقة الوسطى في المجتمع العربي، المعوّل عليها قيام الإصلاح في كافة مجالات الحياة.

-2-

واليوم، نكمل باقي هذه الأسباب، التي لم تتسع لها المساحة المخصصة للمقال السابق:

1- أن بُنية المجتمع العربي كبُنية الفكر العربي، بُنية اتباعية، وليست ابتداعية. ونحن بالتالي أمة القيود والسدود، ولسنا أمة الطيور بلا حدود. والديمقراطية هي الحرية في كل مرافق الحياة. وهذا العامل وعوامل أخرى، غائبة عن وعي الإدارة الأميركية الحالية، التي بدأت السلّم الديمقراطي من الدرجة العليا (النظم السياسية والحكام العرب). ولم تبدأ الإدارة الأميركية من الدرجة الأدنى للسلم الديمقراطي (النظام الاجتماعي العربي).

2- أن الديمقراطية هي ابنة المجتمعات الصناعية. ولم تتقدم الديمقراطية في الغرب إلا بعد أن انتقلت مجتمعاته من مرحلة الرعوية الزراعية وقيمها إلى الصناعية وقيمها. والعالم العربي ما زال إلى الآن بعيداً مسافة كبيرة من المجتمع الصناعي وقيمه. فلا يكفي المجتمع أن يكون فيه عدد من المصانع المنتشرة هنا وهناك. ولا يكفي أن يكون مصدراً للسلع. ولكن المهم أن يتحلّى هذا المجتمع بقيم المجتمع الصناعي.

3- وأخيراً، علينا أن نولي الانفجار السكاني – كعامل اجتماعي ضد التقدم الديمقراطي - في العالم العربي أهمية بالغة. ونربط تفادي هذا الانفجار بتحسن ظروف التنمية الاجتماعية. وعلاقة الرفاهية بحجم الدولة جدل مطروح منذ أيام أرسطو الذي نادى بتقليص حجم المدن الإغريقية. وقال إن التجربة أثبتت أن الدول ذات التعداد السكاني الكبير من الصعب، إذ لم يكن من المستحيل أن تُسيّر تسييراً مرضياً. وهذا المفهوم هو عكس ما يراه الآباء المؤسسون الأميركيون. فقد رأى الرئيس جيمس ماديسون (1751-1846 الرئيس الأميركي الرابع)، إن تعداد الدولة السكاني الكبير سوف يساعد على تحقيق الديمقراطية، من حيث إنه يقلل من احتمالات سيطرة فئة على أخرى، وهضم حقوقها. وقد أثار موضوع الانفجار السكاني وأثره على رفاهية الدولة مؤخراً، اثنين من كبار الأكاديميين الاقتصاديين الأميركيين هما: ألبيرتو آلاسينا، الأستاذ بجامعة هارفرد، وإينريكو سبولور من جامعة براون في كتابهما (حجم الأمم). وقد أشارا في هذا الكتاب إلى أن نصف دول العالم الآن لا يتجاوز حجم سكانهـا ولاية ماساشوستيس (6 ملايين). ويرى هذان العالمان، أن الدول الصغيرة أسعد حظاً في أوقات السلام، بينما تظل تكاليف الدفاع أرخص في الدول العملاقة، حيث تتوزع تكاليف الدفاع على أكبر حجم من دافعي الضرائب. ويرى هذان الكاتبان أن الدول الكبيرة تستطيع أن تجبي مبالغ هائلة من الضرائب. ولكن لكل هذا ثمن باهظ. وأنه ينطبق على الدول الغنية أصلاً. أما الدول الفقيرة كدول الشرق الأوسط والعالم العربي بصفة خاصة، فلا مجال لها لتحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية غير تحديد النسل تحديداً صارماً وبقوة القانون، والتقليل من عدد السكان. ومن هنا نرى أن حظ العالم العربي من الديمقراطية في ظل هذا الانفجار السكاني والدخل المتدني، قليل جداً، حيث صرح المدير السابق لصندوق النقد الدولي رودريجو دي راتو، بأن المجتمعات التي يقل دخل أفرادها السنوي عن عشرة آلاف دولار، من الصعب أن تحصل على استحقاقات ديمقراطية مهمة، حيث سيكون همّها بالدرجة الأولى، السعي لملء البطون، قبل ملء صناديق الاقتراع.

-3-

فهل بدأ العالم العربي بداية ديمقراطية خاطئة، وسار في الطريق الخطأ، حين وقف على أعلى درجة من درجات سلم الإصلاح، وهي درجة الإصلاح السياسي، من قمة الهرم أولاً. ونسي أن السياسة كالتاريخ لا تحتمل حرق المراحل. ولكي نتخطّى مرحلة ما، لا بُدَّ أن نعيشها. وهل بدأت أميركا الإصلاح السياسي معنا، في الطريق الخطأ (طريق الاتجاه الواحد)، حيث لا عودة منها إلى الوراء؟ وكان من الحكمة، أن نبدأ بالإصلاح الاجتماعي أولاً، وهو أساس كل إصلاح. فكنا نحن وأميركا في تيه التيه، وضياع الضياع، حيث أرادت أميركا للعربة الاجتماعية العربية/العثمانية، المصنوعة في القرن التاسع عشر بمواصفات السلطان عبدالحميـد الثاني، أن تسير على الأوتوستراد High Way الأميركي، بسرعة لا تقل عن 150 كم في الساعة، بينما العربة تترنح، وتتطاير أجزاؤها، كما وصفها المؤرخ البريطاني دزموند ستيوارت في كتابه (تاريخ الشرق الأوسط الحديث).