الحوار الوطني بدأ بقرار صائب من رجل حكيم، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، حفظه الله، ونفذ باحترافية وتميز من القائمين على مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، والذي استطاع أن يطرح معظم القضايا الوطنية الهامة والمطروحة على ساحة الحوار والنقاش العام، التي تتعدد فيها الآراء والأفكار والتوجهات لدى بعض الأفراد في المجتمع، حيث خصص مركز الحوار الوطني جلسات ولقاءات حوارية متخصصة شملت بعض المواضيع، مثل موضوعات الإصلاح والتطوير، وموضوعات أخرى تتعلق بالمرأة والشباب والتعليم والإعلام والصحافة والفساد والعمل.. وتعرضت بعض الجلسات إلى الاختلافات المذهبية وغيرها من مواضيع أساسية وهامة لوحدة الوطن والقيادة. وللحقيقة لم يكن هناك حجر على الرأي ولا مصادرة للرأي الآخر، ولا توجيه للآراء، ولا حساب أو عقاب على بعض الآراء الجريئة التي طُرحت بلغة برلمانية. وهي شهادة أسجلها وأنا أحد الذين شاركوا في أول حوار وطني بمكة المكرمة. وشاركت في أحد أهم اللقاءات فيما بعد عن الإصلاح والتطوير، إلا أنني وبعد هذه المقدمة التي أشيد فيها بدور الحوار الوطني أطرح اليوم تساؤلا مهم جداً، وهو: لماذا لم تخصص جلسة أو لقاء حواري متخصص في موضوع (مستقبل اقتصاد المملكة العربية السعودية وتقييم السياسات المالية)، فالاقتصاد والسياسات المالية المتميزة أهم الركائز الأساسية لقيام ونجاح وتقدم الدول اقتصادياً.
هذا الموضوع يعد الأهم في اقتصاد المملكة الذي لا يزال تعتمد 90% من إيراداته الأساسية على إيراد بيع البترول والغاز ومشتقاته. ويرى البعض أنه موضوع ثانوي الأهمية، لأننا نعيش فوق بحر من البترول، وهي أسطورة لم يثبتها من أطلقها حتى الآن، إلا أنني ومنذ سنوات ـ وما زلت حتى الآن ـ أعبر عن قلقي ومخاوفي على الأجيال القادمة التي قد تولد في الحياة ولا تجد سوى أطلال الماضي، وعندها تصب جام غضبها على الأجيال التي سبقتها وأهدرت ثروات بلادها ولم يتبق لها شيء.
وكما قال أستاذ الاقتصاد وخبيره الدكتور عبدالعزيز الدخيل إن معدلات النمو التي يشيد بها البعض لا تعبر عن نمو حقيقي في الإنتاج القومي، وإنما هو نمو في استهلاك رصيدنا الوطني من الاحتياجات النفطية التي هي ليست ملكاً لهذا الجيل وحده، وإنما هي ملك أيضا للأجيال القادمة. عند زيارة السيدة كريستين لاغادر (Christine Lagarde) مديرة صندوق النقد الدولي للرياض في السادس من أكتوبر 2012 بحثاً عن دعم لزيادة رأس مال صندوق النقد الذي يخطط لدعم بعض الدول الأوروبية التي تعاني من أزمات مالية، أعلنت آنذاك إشادتها باقتصاد دول الخليج العربي المصدرة للبترول وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وقالت إن هذه الاقتصادات تتمتع بنمو قوي بلغ 7,5% في عام 2011 وسيستمر هذا النمو قوياً إلى 2012 ، وعندها كتبت مقالة وقلت: الأقربون أولى بالدعم، وأقصد دعم زيادة رؤوس أموال صناديق الاستثمار السعودية والخليجية والعربية والإسلامية، فالعالم العربي يعاني من الفقر والبطالة وضعف التنمية، وصناديق الاستثمار العربية تعاني قلة رؤوس أموالها، إلا أن زيارة كريستين انتهت بدعم يصل إلى 15 مليار دولار، ويقال إن مساهمات دول الخليج كانت الأكبر. ولم يمض على إشادة رئيسة صندوق النقد الدولي كريستين بالاقتصاد الخليجي والسعودي أكثر من ثلاثة أسابيع حتى صدر تقرير صندوق النقد الدولي في 29 أكتوبر 2012 محذراً دول الخليج، بأنه ابتداء من عام 2013 ستنخفض فوائضها المالية في الميزانية والحساب الخارجي، حتى تتحول إلى عجز في عام 2017 (تقرير متناقض مع التصريح الإعلامي لرئيسة صندوق النقد الدولي) ولا أعلم.. نصدق من؟
وبحسب البحث الاقتصادي الإحصائي الذي أعده الاقتصادي الدكتور عبدالعزيز الدخيل، والذي أتمنى أن يكون هو أحد مواضيع جلسة الحوار الوطني المقترح أن يتبناها مركز الحوار الوطني لمناقشة مستقبل اقتصاد المملكة والسياسات المالية المتبعة، فإن البحث الذي آمل أن يطلع عليه كل رجل اقتصاد ومحلل مالي، وهو بحث منشور وليس سريا، يحذر من العجز المالي المتوقع أن يبدأ عام 2013 بحوالي 24,7 مليار دولار، ويصل عام 2030 إلى (806,3) مليارات دولار. ولقد تابعت ردود فعل الجهات المعنية في المملكة على تقرير صندوق النقد الدولي الأخير ونتائج بحث الدكتور الاقتصادي عبدالعزيز الدخيل فلم أجد تعليقاً رسمياً، لم أجد تكذيباً أو تأييداً أو تصحيحاً. وظللت أنا وغيري في حيرة. وإذا كان الأمر صحيحاً فإنني أخشى أن نكون في اتجاه الهاوية لمواجهة أزمة مالية مستقبلية قد تكون لها نتائج خطيرة سياسية واقتصادية واجتماعية. وهذا الذي يدفعني إلى اقتراح طرح موضوع مستقبل اقتصاد المملكة ومراجعة السياسات المالية، يدعى له الخبراء الاقتصاديون السعوديون المتخصصون المستقلون من أصحاب الرأي والرأي الآخر، يتم اختيارهم بعناية من مركز الحوار الوطني، لأن مناقشة الوضع المالي والسياسة المالية في المملكة ليست حكراً على أشخاص محددين، وإنما الأمر مطروح لكل صاحب رأي هادف وبناء، يسهم في الحفاظ على مدخرات هذا الوطن ويحافظ على ثروات الأجيال القادمة، يقدم المصلحة العامة على مصلحته الشخصية.