ما زلنا نفكر في طريق يمكن أن نسلكه لإنقاذ العلاقة بين الطالبة والمعلمة. هذه المقالات تسعى إلى أشكلة العلاقة الحالية وجعل التفكير في إصلاحها عملية ذات أولوية للمعلم والطالب الذين يحلمون بعلاقة إنسانية أخلاقية. أعني علاقة تحترم حرية وعقل وذات كل فرد. علاقة تتجاوز علاقة القائد والتابع التي يرسمها التعليم التقليدي والتعليم الحديث الأداتي الذي لا يتجاوز مفهوم التدريب. في المقالة السابقة تحدثنا عن الخروج عن لغة التعليم التقليدي والانخراط في لغة الآداب والفنون الإنسانية لخلق فضاء جديد وإمكانية أخرى وأمل ممكن. تواصل الأفراد في المدرسة من خلال هذه الآداب يوفّر لهم بيئة جديدة ولغة جديدة ورفاقا جددا يجعلون من التغلب على العلاقة الحالية أمرا إنسانيا. اليوم سنتحدث عن الحوار كسلوك ومبدأ يمثّل هذه العلاقة.
من المهم في البداية، الإشارة إلى فرق جوهري بين الحوار كمبدأ وبين الحوار كاستراتيجية. في الفترة الأخيرة ومع المطالبات بالحوار تشكل خطابا يقدم الحوار من نماذج دينية. ما أتحدث عنه هنا يختلف جذريا عن هذا الحوار. الحوار الديني ينطلق من طرفين طرف يعلم الحقيقة وطرف لا يعلمها. الحوار هنا هو مجرد وسيلة لإيصال معنى معين. ما أتحدث عنه هنا هو حوار ينطلق من نقطة مساواة أولية. ينطلق من أن كل من المعلمة والطالبة شركاء في تجربة التعلّم وأن كل ما يجري في هذه التجربة لن يكون له معنى دون أن يشترك فيه الجميع. الحوار هنا ليس طريقة لإيصال المعلومة بل هو حالة للتفكير فيها والتواصل حولها. الحوار هو الطريقة التي يتعامل بها الأفراد المؤمنون بحريتهم. في التعليم، الحوار يعني أن المعرفة تخلق في الحوار. لا يعني هنا أن الحوار بالضرورة ينتج معرفة جديدة كل مرّة ولكنه يجعل المعرفة جديدة لنا كل مرة. على سبيل المثال معلم يشرح لطلابه نظرية نيوتن. ليس المطلوب هنا من الحوار في هذا الظرف الخروج بنظرية جديدة بل المهم هو أن ينجح في أن يجعل الطلاب يشعرون بمعنى الاكتشاف الذاتي الجديد لهذه النظرية. المعلم الناجح هو من يساعد طلابه على تحقيق خبرة معينة تجعلهم بأنفسهم يكتشفون قوانين نيوتن. حين ينجح في ذلك سيجعلهم يشعرون بنشوة الاكتشاف وهذا هو المعنى الأعمق للدرس. الحوار إذن لا يتجاوز خبرة المتحاورين بل ينطلق منها. الحوار هنا يحترم تجربة الطالبة في الصف الأول الابتدائي وينطلق منها تحديدا. في هذا الحوار أشياء كثيرة لم تكتشف بعد وستكون الرحلة جميلة جدا لاكتشافها. المعلمة الأسيرة في خبرتها الخاصة لن تستطيع الدخول في مغامرة الاكتشاف المثيرة مع تلك الطفلة.
الحوار هنا أيضا هو طريقة للاختلاف العاقل الإنساني. أي إنه المبدأ الذي نتربى من خلاله على الاختلاف. الاختلاف يصبح معقولا ومفهوما جدا حين ندرك أن كل إنسان له الحق في التفكير والرأي وأن هذا التفكير خاضع لتجربته وخبرته وخياراته الخاصة. الكثير من المعلمين والمعلمات يفشلون في الحوار لعدم قدرتهم على تصور أن يختلف الناس حول قضايا كثيرة. المعلمة أو المعلم الذي يغفل عن دور الخبرة الذاتية للمتعلم وأن كل شيء لا بد أن يمر بها لا يجد أمامه إلا خيار التلقين والفرض. حين يلجأ المعلم أو المعلمة للتلقين وفرض المعلومة فإنهم قد أضاعوا المدخل الطبيعي لعقول طلابهم.
قبول الاختلاف هو خروج جوهري عن العلاقة التي يرسمها التعليم التقليدي والأيديولوجي. كل مجهودات هذا التعليم تسعى من أجل تشكيل حقيقة واحدة وخيار واحد للجميع. الاختلاف هنا يصبح خروجا عن الجماعة وتفكيكا للصف وتهديدا للوحدة العامة. في بيئة الحقيقة الواحدة لا معنى للحوار إلا بمعناه التقني. الحوار الحقيقي يبدأ بقبول فرضية الاختلاف وتنوع الحقائق والحق الفردي في خوض تجربة البحث عن المعنى. لا معنى لرحلة للبحث تبدأ بالتهديد والوعيد من الخروج عن الخط المرسوم سلفا. المعلمة التي تبدأ الحوار بأن هناك نتيجة واحدة وهناك عقوبة لمن خالفها هي معلمة لم تدرك أبدا معنى الحوار.
الحوار هنا تحد كبير لمن طال به المقام في التربية التقليدية لأن الحوار لا يتحقق إلا بإعادة علاقة المحبة مع السؤال. الحوار هو حالة انفتاح على الجديد. هو حالة متفائلة للتعامل مع الجهل. السؤال هو المهماز الذي يجعل من الحوار ممكنا لا باعتباره حالة مؤقتة بل باعتباره سلوكا مستمرا. الحوار هو إدراك عميق لقصور معرفتنا وحاجتنا للبحث باستمرار. التعليم التقليدي يجعل من علاقة الإنسان بالسؤال علاقة مشوّهة. التعليم التقليدي والأيديولوجي يجعل من تجربة السؤال تجربة مؤذية ومحفوفة بالمخاطر. السؤال في هذه البيئة هو نذير خطر وشؤم ولذا فإن الطالب المتفوق هو الذي يجيد الصمت وترديد الجواب المتعارف عليه. الحوار هنا هو خروج عن هذه البيئة ومحاولة لإعادة علاقة المحبة مع السؤال.
الحوار أيضا علامة على الأمان. هو علامة على الطمأنينة والمشاركة والتفاؤل والتواصل. في الصف الآمن وحده يتحدث الطلاب بحرية وينخرطون في حوار مفتوح. بينما في الصف الذي لا يتحدث فيه إلا شخص واحد فإن الخوف أقرب للحضور والوجود. الخوف هنا عازل يفصل الناس ويمنع تواصلهم. الحوار هنا هو مغامرة للتخلص من الخوف ومن الحواجز التي تحجبنا عن بعضنا البعض. الحوار هنا انكشاف على الآخرين وفي ذات الوقت انكشاف على الذات. التعليم التقليدي يحجب الإنسان عن نفسه ومن خلال الحوار يمكن أن يخطو الجميع خطوة للأمام.. تحديدا نحو أنفسهم.
الحوار هنا هو تجربة لإقامة علاقة إنسانية مع الذات ومع الآخرين. الحوار هنا ليس مجرد وسيلة لتلقين الحقيقة بل اعتراف بالاختلاف والتنوع والمحاولة والخطأ وإعلان للأمان أي اعتراف بإنسانية الإنسان.