في كل الأعراف القانونية منذ "حمورابي" إلى "بوكي مون" يمثل الادعاء العام صوت المجتمع، وتتركز مهمة المدعي العام في المطالبة بحق المجتمع ممن يعتدي عليه من الأفراد أو الجماعات الرسمية وغير الرسمية، فهل سمعتمتن عن مدعٍ عام سعودي رفع قضية باسم "مواطٍ" تضررت سيارته أو نفسه بسبب مطبات وحفريات البلدية؟ وبالمقابل لو تسبب مواطنان في حادث بسيط أدى إلى الإضرار بإشارة صدئة هل يتسامح "مرور الكرام" عملاً بالمبدأ الذي يضطر الناس إليه دائماً حتى مع """""نجم الظهر" وهو: كل يصلح سيارته، وما في العوض خير؟

أما في مصر "طه حسين" الملكية فقد كان هناك دستور محترم، وقانون يحرك حياة الناس بصرامة، مهما قيل فيها فهي أحسن من واقعها الجمهوري اليوم! وبناءً على المادة الثانية من الدستور المصري، القائمة حتى اليوم وهي: "أن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للدولة" تقدم طالب أزهري ببلاغ للنائب العام ضد "طه حسين" إذ رأى أن كتابه الخارج للتو من رحم المطبعة: (في الشعر الجاهلي) يمثل مساساً خطيراً بدين الدولة (الحكومة والشعب)، مطالباً بمصادرته ومحاسبة مؤلفه حسب الأنظمة والقوانين المعتبرة آنذاك.

كان هذا البلاغ المقدم من طالب مغمور سلوكاً حضارياً، بينما كان السلوك غير الحضاري وغير الدستوري وغير القانوني هو المناقشات القائمة على المزايدات السياسية "البراغماتية الميكافيلية" التي شهدها مجلس "النواب"، لكن التاريخ ـ الذي لا يظلم ولا يرحم ـ سجل للعملاق/ "عباس محمود العقاد" موقفاً ناصعاً؛ فرغم مخالفته العلمية للكتاب وما جاء فيه إلا أنه رفض أن تصادر حرية الكلمة والنشر، ورفض أن يكمم فم مفكر حر مهما شطح، ودافع عن حق "طه" في أن يقول ما يريد، وحق المخالفين في رفض ما يقول ولكن بالسلاح نفسه لا بأسلحة أخرى قد لا تخلو من ""قذارة!

وسجل التاريخ أيضاً أن النائب العام آنذاك/ "محمد نور باشا" كان مثقفاً واعياً وعالماً في اللغة والأدب والتاريخ يتفوق على كثير من معاصريه الأكاديميين المختصين، فما إن وصله البلاغ حتى عكف ستة أشهر كاملة على كل ما كتبه "طه حسين" منذ 1911 إلى 1926 سنة انفجار قنبلة "في الشعر الجاهلي" الطحسنية؛ ليكون محضر استجوابه للمدعى عليه/ "طه حسين" واحداً من أهم وأمتع الكتب في سياق ذلك الحوار الفكري، وقد نشر بعنوان (أوراق النائب العام في قضية الشعر الجاهلي لطه حسين)، حيث جاءت أسئلة "محمد نور" استفهاماً لا اتهاماً، وإجابات "طه" توضيحاً علمياً لا دفعاً لتهمة ولا تملصاً من مسؤولية!

ولم يصطدم العقلان الكبيران إلا في نقطة واحدة تمثلت في أربعة أسطر تبدأ بما أورده ""فاضل العنزي": "للقرآن أن يحدثنا.. وللتوراة أن تحدثنا.." أوصى النائب العام بحذفها من الكتاب، وأغلق المحضر وحفظ القضية، واستجاب "طه حسين" فحذفها في الطبعة التالية التي جاءت بعنوان (في الأدب الجاهلي)، فلماذا نحاسب "طه" بالمنسوخ ونعرض عن الناسخ؟