هذا المشهد المضطرب على الساحة المصرية خاصة، وفي بلدان الربيع العربي عموماً، لا ينبئ بمسرات على نحو ما كنا نتوقع أو نتوق.
وذلك التحول التاريخي الذي اعتقدناه حقيقة ماثلة من حقائق الزخم الشعبي الممتد من شرق أقطارنا العربية إلى غربها يبدو باهتا، وقد أفرغ حممه فوق كهول الاستبداد، وكان مهمة الثورة أن تغدو قريبة من ناقة صالح؟
هنا في هذه الساحة أو تلك سنتذكر حالة التراص، وما ثورات القوى السياسية المجتمعة على صعيد واحد تقف على مشارفة أسئلة فارهة الفرح.. كيف حدثت المعجزة؟ أو كيف التئم العقد المنفرط بين اليسار واليمين؟ بين الإسلاميين على اختلافهم والقوميين على تنابذهم والاشتراكيين بتنوع مدارسهم؟ كيف صاروا كتلة واحدة من لهب مستعر لإسقاط النظام..؟ لم يحدث هذا الالتحام خلال ثورات التحرر من الاستعمار، ولا أثناء تجارب بناء الدولة القطرية، ولم يحدث أن كانت هذه الباقة بمثل ذلك التناسق، بحيث تتعذر إمكانية التعرف على تمايزاتها البرامجية وصراعاتها الماضوية، إذ لا شيء يبدو مختلفاً في نمط علاقاتها ومفردات شعاراتها وتجانس مخاتلاتها ضد ما ليس مرغوبا اقترابه من مركز توجيه مسار الثورة!! ومن أين لعاقل أن يتصور كل ذلك الاحتدام والالتحام و(الحنية) وهو في طريقه للاستنفاذ على نحو ينجز البشاعة كمشروع وشيك يسم ما كنا نطلق عليه التحول إلى الأمام!
أحاول ألا أفهم، حفاظا على التهيؤ المثالي الذي تختطه الآمال لدى محكوم يقترب من المشنقة وعيناه مصوبتان على شفقة أولياء الدم..
أحاول – شأن كثيرين – الإبقاء على حمية العلاقات الثورية التي تجعل المغالطات مصدر عزاء.. لحظة لا يدري ضحايا النظام السابق كيف يتدبرون عملية التواري خجلا من ممارسات بعض المحسوبين على القوى الثورية والمتصدرين نوط الدرجة الأولى نضال!
مخيف ما يحدث.. ويوشك الحزن على قضم براعم الآمال الثورية وسحقها بقسوة لا نظير لها! أحقاً كانت علاقات شركاء اللحظة التاريخية بهذا القدر من الهشاشة ما يجعلها تتنكب درب التغيير وتسهم في قهر إرادة الشعوب..
أين يكمن الخلل..؟ في العمق الثقافي الشعبي لثورات الربيع أم في إرث الاستحواذ الحزبي الممسك بريموت الثورة؟ ومن المسؤول عن الانحرافات الفادحة في ساحات الربيع المنقسمة مصريا والمترنحة في البلدان الأخرى.
المشكلة في تقديرنا لا تعكس مضمون الثورة كمتطلب عادل استحقته الشعوب بعد عقود من المعاناة.. كما لا تنبع المشكلة من بؤر مقاومة تغذيها جيوب الحكام المخلوعين – وأستثني من ذلك اليمن - قدر اقترانه بمؤثرات ماضوية أصلتها أيديولوجيات صراعية يسارية وقومية وإسلامية، جميعها التحم بساحات التغيير، وتمكن من إزاحة المستبد القديم وفقا لدوافع ذاتية لا تلبي حاجة الشعوب إلى التغيير بالأفضل.
إنه ليصعب علينا تصديق الخطاب السياسي المتمحك برئيس دولة خلف القضبان، إذ لو كان بيده أن يعترض طريق السلطة الجديدة لوفر هذا الجهد بغية الإفلات من وضعه المأساوي الرهيب.
لقد كان علينا التضامن بقوة مع جماعة الإخوان المسلمين يوم كانوا خارج الحكم ويتحدثون بصخب عن مفاسد السلطة المطلقة ومقارنة رأس النظام المخلوع بالفرعون..
وفي تناولة سابقة في (الوطن) كتبت مفنداً الخطاب التحريضي الذي واكب الانتخابات الرئاسية المصرية، وحملت بشدة على الأصوات المحذرة من مخاطر انتقال السلطة إلى جماعة لحقها الإجحاف والحضر، وحاق بها من العذاب ما تقشعر له الأبدان، فطالما كان هؤلاء يقبلون المشروع المدني ويخوضون المنافسة بمعايير موحدة تحقق شروط التكافؤ والندية والمساواة، فلم نفترض فيهم سؤ النية ونحول دون حقهم في الوصول إلى سدة الحكم.
على حين غرة تحملنا تطورات الأوضاع في الساحة المصرية على إعادة النظر في طروحاتنا السابقة!! وقطعاً لم يكن هذا ليحدث لولا أن "الإخوان" – في الوطن العربي والعالم - لم يأخذوا على يد صاحبهم!! ولم يتذكروا ما كانوا عليه بالأمس من حماس سياسي وديني يندد بالسلطة المطلقة، وأنه لا أحد إلا الله يمتلك الأمر كله دون منازع.
إنه لمن دواعي الأسف أن تحترق الأقنعة الثورية بهذه السرعة والخفة وبؤس التصور ونهم الاستئثار.
عموما لا أجد في الوصول إلى الحكم دون تعقل ورشد غير فخ قاتل، أقرب الأمثلة شبها به حيلة الحرباء وهي تتظاهر بالموت وتمكن من ازدرادها ولاحقا وقد استقر بها المقام في أحشاء العدو، تنفخ أوداجها لتدفع أفعى الكوبرا حياتها على قارعة الجشع وقلة الحيلة!!